د. مصطفى الفقي يكتب: ومضات ضوء وسط الظلام
بريق أمل فى المدى البعيد يوحى بالخروج من شرنقة الضغوط الدولية والتأثيرات العالمية
لا يختلف اثنان حول صعوبة الأوضاع فى معظم الدول العربية، فمصر مهمومة بتداعيات أزمة سد النهضة، وتشعر بإحباط من قيام دولة إفريقية شقيقة، هى إثيوبيا، بمحاولة العبث بحصتى مصر والسودان فى مياه النيل، ورفض أديس أبابا جميع العروض المعتدلة لتسوية النزاع، الأمر الذى قد يفجر أزمة حادة أو صراعا طويلا فى المنطقة. ولبنان يعانى اقتصاديا وسياسيا على نحو يهز صورته الرائعة، وهويته الجذابة، كما أن شبح الإفلاس يهدد قطاعات ومؤسسات فى ذلك البلد الشقيق. والأردن تعافى منذ أيام قليلة من صراع مكتوم أقرب ما يكون إلى مؤامرات القصر منه إلى تحركات الشارع. والعراق يجاهد لبناء الدولة التى دفعت ثمنا فادحا فى العقود الأخيرة، سواء بسبب الاحتلال الأجنبى، أو بسبب الحصار الاقتصادى، فضلا عن محاولات تنظيم «داعش» الإرهابى إحياء وجوده فى بعض المناطق التى جرى طرده منها، وتحريرها ببسالة الجيش العراقى فى العامين الأخيرين. والوضع فى سوريا متجمد لا تبدو أمامنا فيه ملامح للانفراج، فضلا عن الضغوط الخارجية والتأثيرات الأجنبية، سواء من جانبى إيران وتركيا، أو قوى كبرى أصبحت طرفا فى الصراع الدائر فى تلك الدولة. أما السعودية ومعظم دول الخليج فالكل هناك يعيش حالة ترقب أمام فترة رئاسة أمريكية جديدة، توحى مؤشرات كثيرة بأنها تسعى لفتح ملفات مؤجلة للضغط على تلك الدول عند اللزوم، بما فى ذلك الوضع فى اليمن وتداعياته المعقدة. وإذا نظرنا إلى المغرب العربى فسنجد انفراجة ملموسة على الساحة الليبية تتمثل فى درجة من التوافق، وإن لم يكن كاملا، بين جميع القوى المتصارعة على السلطة. أما تونس فعلى الرغم من مشكلاتها فى البرلمان وخارجه، فإنها تمضى على الطريق ومثلها مثل الجزائر كدولتين عربيتين إفريقيتين متجاورتين. أما المغرب فقد أصبح يستأثر بأفضل بنية أساسية فى العالم العربى مع دوران حركة الاستثمار بنجاح واضح، وإحداث قفزات واضحة فى مستوى معيشة الفرد. فإذا كان ذلك هو عرضا سريعا وموجزا للأوضاع العربية عامة، إلا أن هناك بريق أمل فى المدى البعيد يوحى بعودة الضياء إلى الأرض العربية، والخروج من شرنقة الضغوط الدولية والتأثيرات العالمية، ويمكن إجمال ذلك فى بعض الملاحظات:
أولا: إن الكون فى حركة دائمة، وكوكب الأرض تشابكت فيه العلاقات، وتداخلت الارتباطات، وأصبحنا أمام مشاهد معقدة ليس من السهل فك طلاسمها، ولقد أسهمت التكنولوجيا الحديثة فى ازدياد درجة التعقيد، بحيث تقاطعت الأحداث الطارئة والأزمات العابرة مع الأوضاع القائمة، وينطبق هذا الشأن على العالم العربى بكل ما له وما عليه. ولست أزعم أن العرب فى أفضل أوضاعهم، بل قد يكون العكس صحيحا، فأكبر دولتين عربيتين، وهما مصر والسعودية، تجرى محاصرتهما بقوى معادية، سواء من الحوثيين المدعومين من إيران فى جنوب السعودية، أو إثيوبيا المدعومة بقوى متعددة، لمحاولة خنق مصر جنوبا، بالتحكم فى مياه نهر النيل، وتجد هذه القوى المعادية من يدعمها لإضعاف أكبر دولة اقتصاديا، وهى السعودية، وأكبر دولة سياسيا، وهى مصر، بينما جرى تحييد العراق قوميا بكل الطرق، وإشغال المغرب العربى فى مشكلاته، وتحويل العمل العربى المشترك إلى هيكل شكلى تبدو فاعليته محدودة، وإرادته مشلولة. وعلى الرغم من كل ذلك، فإننى ألمح بصيص النور عن بعد، وأرى أن طلوع الفجر بات قريبا، لأن العرب أصبحوا جزءا لا يتجزأ من المعادلة الدولية، وتشابكت أطرافهم مع دول مختلفة، ولم يعودوا هم تلك الأمة التى تعيش مع الأوهام والأحلام بعيدا عن الواقع الذى يشهده الجميع. فلقد أصبحت الدول العربية، فرادى أو مجتمعة، جزءا لا يتجزأ من المعادلة الإقليمية، التى تمتد فيها أطماع إيران مع أحلام تركيا مع سياسات إسرائيل، بحيث نجم عن ذلك كله وضع مختلف لم يكن مطروحا من قبل، فلقد ارتفع العرب إلى درجة الوعى الكامل بالشئون الدولية والعلاقات المركبة بين القوى المختلفة.
ثانيا: إن اتساع دائرة المعلومات وتداولها، والدوران السريع للأخبار فى ظل ثورة الاتصالات التى شهدها العالم، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن درجة الشفافية فى العلاقات الدولية والارتباطات الإقليمية أصبحت عالية، ولم تعد هناك أسوار تمنع أو حواجز تحول دون التواصل المستمر بين مختلف الأطراف، بل والانفتاح الكامل على العالم الخارجى. ولعل ثورة المعلومات، وما صاحبها من نتائج، تعد تعويضا تلقائيا عن الغياب النسبى للممارسة الديمقراطية فى معظم الدول العربية.
ثالثا: إن أكثر الومضات سطوعا فى ظنى هو حالة الاهتمام الجديدة بالتعليم فى الدول العربية، ولو أخذنا النموذج المصرى لوجدنا أن العامين الماضيين قد شهدا نقلة نوعية لتحديث التعليم، الذى كان قد توقف عند نهاية الحرب العالمية الثانية والعلم المتاح وقتها. وعلى الرغم من المعارضة القوية من قطاعات متعددة، فإن الحكمة تقول: «إن المرء عدو ما يجهله»، ولذلك اتجهت سياسات المصريين لتتبلور فى حوار عميق يحاول أن يضع حدا للأساليب العقيمة التى تعاند التطور، وترفض الإصلاح. ولقد مضت دول عربية عدة أيضا فى اتجاه إصلاح التعليم، وذلك فى ظنى هو التصرف الأمثل لمن يسعى لارتياد طريق الغد. فالتعليم قاطرة التنمية، وركيزة الديمقراطية والسند الحقيقى لمنظومة الحريات، التى يسعى الفرد للتمتع بها فى ظل دولة راسخة الأركان ثابتة البنيان.
رابعا: إن استشراف المستقبل والتوجه العربى العام نحوه، إنما يؤكد اتجاه الإرادة القومية إلى تعزيز العقل المعاصر والاهتمام بالبحث العلمى الذى يفتح الأبواب المغلقة أمام الأمم والشعوب. وهذه فى ظنى بوادر مشجعة نحو ارتياد المستقبل والسعى فى طريق طويل يؤدى إلى حياة أفضل للعرب فى أقطارهم المختلفة.
خامسا: إننا لا ننكر أن هناك ما يؤرق الدول العربية، كلٌّ على حدة، فسد النهضة الذى تقيمه إثيوبيا على النيل الأزرق هو محاولة استفزازية كيدية مدبرة لمحاولة خنق مصر، أكبر دولة عربية، فضلا عن تعطيل الإرادة الكلية للعرب، بل والاحتفاظ بهم رهينة لإرادة قوى إقليمية وقوى دولية لا تخفى على أحد، لأنها لا تريد التقدم للأمة العربية ولا الصحوة لشعوبها تسهيلا للسيطرة عليها وإحكام قبضة التخلف الذى يحيط بها. ولندرك جميعا أن العلاقات الدولية لا تعرف الحب أو الكراهية، ولكنها تعرف الاحترام، أو الاستخفاف، فالاحترام من نصيب الدول التى تبنى قواعد المجد على أرضها، وتشيد فى رصانة وقوة دعائم مستقبلها، بينما يظل الاستخفاف لصيقا بدول أخرى معدومة الإرادة قليلة التأثير فى محيطها الجغرافى إلى جانب تضاؤل حصيلتها من التراث الإنسانى.
إن الملاحظات التى طرحناها قد تبدو مغرقة فى التشاؤم، وذلك هو الذى يدعونا إلى البحث عن ومضات الضوء، فقد تحقق فى ليبيا ــ على سبيل المثال ــ فى الأشهر الأخيرة، ما لم يكن متاحا من قبل، واتجهت الدولة الشقيقة نحو التوحد والاستقرار، وهو أمر كان يبدو منذ أشهر قليلة بعيد المنال. كما أن هناك بوارق أمل أخرى فى تواصل قوى بين بعض الدول العربية فى المشرق، مثلما هو متوقع من دولة العراق تجاه أشقائها فى الأردن ومصر، بل والسعودية أيضا، كما أن دول الخليج العربى قد قطعت شوطا طويلا على طريق التحديث، وأظن أن القنوات المفتوحة بين الإمارات والبحرين فى جانب، وإسرائيل على الجانب الآخر، هى تطور موضوعى مقبول على ألا يمس ذلك ثوابت القضية الفلسطينية وحقوق العرب، بل قد يؤدى هذا الانفتاح إلى اشتباك سياسى بناء يكرس حل الدولتين، ويعطى للفلسطينيين حقوقهم المشروعة، بحيث يسود السلام، وينقشع الظلام، إيذانا ببزوغ الفجر الصادق، والوصول إلى مهرجان الشروق الذى يحتوى الكون والكائنات!
نقلا عن إندبندنت عربية
نقلا عن إندبندنت عربية