نبيل فهمى يكتب: «من صيف ليبيا إلى صيف إثيوبيا»
فى مستهل الصيف الماضى كتبت أن ليبيا قد تكون ساحة معارك ومواجهة إقليمية إذا توسعت تركيا فى انتشارها العسكرى، ووضع الرئيس المصرى خطا أحمر حذر من تخطيه، وبعد أسابيع من التوتر خفت حدة المواجهة المحتملة، ونشطت الجهود الدبلوماسية والسياسية، ووضعت خطة طريق أممية نحو إقامة مؤسسات فاعلة لدولة ليبيا جديدة، وهو تطور إيجابى ومرحب به، حتى وإن ظل من السابق لأوانه الاطمئنان أو الافتراض أن النتيجة المرجوة فى متناول اليد.
وهذا العام نجد أنفسنا ننظر مرة أخرى إلى الصيف بقلق بالغ، إزاء التوترات المتنامية فى شرق أفريقيا، خاصة بالنسبة لسد النهضة، فارتفعت نبرة الخطاب السياسى لقادة مصر والسودان وإثيوبيا، مع تمسك الأخيرة ببدء الملء الثانى مع فيضانات الصيف، حتى فى غياب التوصل إلى اتفاق قانونى ملزم بين الدول الثلاث بشأن ملء بحيرة السد وإدارة المياه.
وذكر الرئيس المصرى بأن بعض الدول تسىء استخدام مياه الأنهار بشكل غير مدروس، وأن حقوق مصر المائية لا يمكن المساس بها، وحذر أن من يشكك فى قدرات وعزيمة مصر فى حماية حقوقها يخطئ خطأ كبيرا، وجأت التصريحات سودانية على نفس النبرة، مؤكدة على أنه يتم بحث كل الخيارات لحماية أمن السودان بعد تعنت إثيوبيا فى مفاوضات سد النهضة، ومقابل ذلك تمسك الجانب الإثيوبى بأنه عاقد العزم على بدء الملء الثانى فى موعده، بصرف النظر عن مدى التقدم فى المفاوضات، مع التأكيد على أن إمكانيات إثيوبيا تسمح لها بتوفير الحماية له من أى تهديدات أو مخاطر.
كل المؤشرات كانت تشير إلى التلكؤ والتعنت الإثيوبى قائم منذ زمن طويل، برفضها السابق التعاون مع تقرير مكتب الخبراء الأجنبى، وحتى بعد التوقيع فى السودان على إعلان بين الدول الثلاثة استمرت مناوراتها برفض كل محاولات التوصل إلى اتفاق ملزم، وتمسكت بأن يكون الاتفاق استرشاديا، مع احتفاظها وحدها بالقرار المستقل والأحادى بالنسبة لإدارة السد، وضبط معدلات تدفق المياه فى مختلف الظروف المناخية، من أمطار وفيضانات أو ندرة وجفاف، وظلت على مناوراتها فى الاجتماعات الأخيرة بالكونغو، بطرح أفكار شكلية عن إبلاغ الآخرين لاحقا بما تتخذه وحدها من إجراءات.
وصلنا الآن إلى مفترق طرق بالغ الحساسية والخطورة، والخيارات والبدائل لا تبشر بالخير، فمن الواضح أن المفاوضات الثلاثية الحالية فى الإطار الأفريقى لن تؤدى إلى النتائج المرجوة مهما طالت وداومت، ولم تعد هناك مساحة كبيرة للتفاوض أو وقت لمناورات سياسية، لأن الملء الثانى آزف واقترب، وحتى إذا تم مع أمطار غزيرة تقلل مرحليا من إضراره على مصر والسودان فخطورة هذا الملء أنه يفرض الأمر الواقع ويكرث أن القرارات الخاصة بالسد أحادية ولإثيوبيا وحدها مستقبلا.
الطريق التفاوضى دائما هو أفضل الطرق لحل المنازعات إذا توافرت الإرادة السياسية، وحتى إذا تعثرت مرة بعد الأخرى وتفاقمت الأمور أفضل دائما التفاعل مع العملية التفاوضية مرات ومرات، وإنما خطورة الموقف الآن يقع فى محاولات إثيوبيا فرض مبدأ القرارات الأحادية والذى يتناقض مع أى اتفاق مجدٍ مستقبلا، ومع تفهمى للجهد الذى بذل إماراتيا، وترحيبى من حيث المبدأ بما أعلن عن نية المملكة العربية السعودية استضافة اجتماع قمة للدول الثلاثة، لا أعتقد أن هناك سبلا لنجاحها طالما تمسكت إثيوبيا بأن تكون صاحبة القرارات الأحادية، بل إن انتقال المشاورات والمفاوضات من إطار إلى آخر وحده قد يفتح الباب لمزيد من التلكؤ والمناورة من قبل إثيوبيا.
من حق مصر والسودان اللجوء إلى مختلف المؤسسات الدولية لشرح الموقف، والعمل على حشد الدعم الدولى لصالح موقفهم، هذا حق وواجب للدولتين، وإنما لا أعتقد أن إثيوبيا ستتجاوب مع نداءات ومقررات المنظمات الدولية، لأن التوازنات الدولية القائمة لن تسمح بفرض عقوبات عليها أو باستخدام القوة من قبل تلك المؤسسات لتنفيذ أى قرارات تصدر عنها.
وأتساءل هل تدخل روسى أمريكى يوفر مخرجا من الموقف؟ فى ضوء زيارة وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف إلى مصر خلال الأسبوع الثانى لأبريل، وإيفاد الإدارة الأمريكية الجديدة مبعوثها المعنى بالسودان السين كونز إلى مصر منذ أسابيع، وما أعلن عن قرب تعيين السفير جيف فلدمان مبعوثا لها للقرن الأفريقى، أتمنى ذلك وإنما لا أرجحه، لأن كروت روسيا السياسية للضغط على إثيوبيا قليلة، والتصريحات الصادرة عن الخارجية الأمريكية أخيرا يمكن أن تفسر على أنها تميل تجاه إثيوبيا، مع تأييدها للمقترح الخاص بتبادل المعلومات عما تتخذه من إجراءات والذى يكرث مبدأ اتخاذها لقرارات أحادية.
لكل هذه الأسباب أخشى أننا قد وصلنا بالفعل إلى مفترق طرق خطير، لأن جميع الخيارات فيه صعبة، فالتباطؤ يضعنا أمام الأمر الواقع، والتسرع نحو الصدام المفروض علينا والمبرر يحمل فى طياته تداعيات إقليمية ودولية عديدة، موقف صعب وقرارات قاسية.
الدولة القوية هى التى لديها الحكمة فى السعى لحل القضايا بالطرق السلمية والتفاوض قبل كل شىء، والتى تعمل حساب جميع الاحتمالات والتداعيات، والدول القوية هى أيضا التى تتخذ القرارات الحاسمة عندما يلزم الأمر وفى التوقيت المناسب، والقادرة على ترجمة القرارات التى تتخذها ــ فى ظل ظروف صعبة ــ إلى نتائج ملموسة تحقق مصالحها فى الأمد الطويل.
وهل يشهد هذا الصيف أحداثا ساخنة وخطيرة، ويدفع الجميع ثمنا غاليا فيها، أم انفراجة مفاجئة تعفينا جميعا مخاطر نحن فى غنى عنها، مفاجئة بإظهار الإرادة السياسية الواجبة فى اللحظات الأخيرة، أو تراجع أحد الأطراف عن مواقفه، أقل ما يمكن أن يقال هو أن صيف 2021 سيترك بصمة واضحة على مصالح ومواقف الدول الثلاثة وعلى استقرار ومستقبل شرق أفريقيا.