ذكريات العودة “بالأحضان ياسينا”
بقلم د يحيي البلك
في السادس والعشرين من مارس عام ١٩٧٩ وقع الرئيس السادات اتفاقية السلام والتي بمقتضاها ستنسحب اسرائيل من العريش وجزء كبير من سيناء بعد شهرين أي في السادس والعشرين من مايو .. كنت وقتها قد انهيت للتو سنة التدريب (الامتياز) وتم تعييني في محافظة كفر الشيخ .. بمجرد سماع ذلك الخبر قررت أن أنتقل للعمل في شمال سيناء فقد حان الوقت الذي انتظرته منذ ١٢ عامآ للعودة لأرض الآباء والأجداد ومهد الطفولة والصبا .. تقدمت بطلب النقل وتمت الموافقة عليه وذهبت لاستلام العمل في مدينة القنطرة شرق المقر المؤقت لمحافظة شمال سيناء وحين قابلت الدكتور عبد الرحمن مصطفي المدير العام للشئون الصحية في ذلك الوقت أخبرني أنه قد وقع الأختيار علي للسفر أنا والدكتور صلاح مصيلحي والدكتور عبدالكريم يونس علي رأس القافلة الطبية المتجهة للعريش في اليوم التالي لاستلام مستشفي العريش من الادارة الاسرائيلية .. كان الخبر مفاجئآ لي ولكني تلقيته بمنتهي الفرح والسرور وطلبت منه الأذن لي بالعودة للقاهرة لأحضار شنطة ملابسي حيث لم أكن مستعدآ للسفر وبالفعل ركبت أحدي عربات مديرية الصحة المتجهة للقاهرة وأحضرت ملابسي وعدت للقنطرة شرق في نفس اليوم .. لم أستطع النوم في تلك الليلة فغدآ سأعود لمدينتي الحبيبة وأذهب لمنزلنا القديم لأشم رائحة الوالد الذي رحل عن الحياة وأنا طفل رضيع ولم تكتحل عيناي برؤيته .. سأتسلق شجرة التين العتيقة في منزلنا لأكل من ثمارها الشهية التي كانت تفيض عن حاجتنا فتطلب مني الوالدة توصيل الباقي للأهل والأقارب .. سأزرع حديقة منزلنا بالزهور وبعض الخضروات كما تعودت في صيف كل عام .. سأمشي في شارع ٢٣ يوليو والشوارع المجاورة حيث كانت ذكريات الطفولة مع أجمل الأصدقاء .. سأذهب لوادي العريش لأشاهد سنابل القمح وهي تتفتح في الربيع وسأذهب لبحر العريش الساحر في الصيف لأتمتع بأجمل شاطيء برماله البيضاء الناعمة وأشجار النخيل الباسقة التي تمتد علي طول الشاطيء .. كل هذه الخواطر الجميلة طافت ببالي طوال ليلة السفر وفي الصباح الباكر تحركت القافلة الطبية من القنطرة شرق متجهة للعريش وقطعت المسافة التي تستغرق في العادة ساعتين في حوالي خمسة ساعات من شدة زحام الأهالي طوال الطريق حيث خرجوا من منازلهم وهم ينشدون الأهازيج ويرددون الأغاني ويرشون سياراتنا بالملح والزهور وقطع الحلوي .. كانت الفرحة تملأ عيونهم والبسمة ترتسم علي شفاههم والامل يحدوهم في مستقبل مشرق يعوضهم عن سنوات الاحتلال .. أخيرآ وصلت العريش بعد ١٢ عامآ من الغربة القسرية وكان لسان حالي يقول « بالأحضان ياسينا «