حياة كريمة.. ريف مصري جديد: كيف تكون ريف مصر وتطور عبر التاريخ؟
أصدرت “تقديرات مصرية” -دورية نصف شهرية تصدر عن المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية (ECSS)- عددا جديدا بعنوان “حياة كريمة.. ريف مصري جديد”، يستعرض حجم وسرعة عملية التطوير بالريف المصري، وسعي الدولة إلى الربط بين جميع المحافظات ببنية أساسية حديثة، مع ترك مساحة لمبادرات المجتمع المدني، وعلى رأسها مبادرة “حياة كريمة”، التي تمثل خطوة مهمة لوجه جديد للريف والتنمية في مصر.
ويتكون العدد من 72 صفحة، ويحوي ملفا خاصا يضم موضوعات بعنوان “حياة كريمة.. عودة الفائض لتنمية الريف”، و”تطوير الريف.. عماد المشروع الوطني المصري”، واقتصاديات (حياة كريمة) بين التمويل والتنمية”، و”الفجوة بين الريف والحضر.. مؤشرات تنموية”.
• “حياة كريمة”.. عودة الفائض لتنمية الريف
وضمن موضوعات ملف العدد، كتب الدكتور جمال عبدالجواد، عضو الهيئة الاستشارية ومدير برنامج السياسات العامة بالمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، في مقال بعنوان “(حياة كريمة).. عودة الفائض لتنمية الريف”، قائلا إن “خطة تطوير الريف المصري، المعروفة بمبادرة (حياة كريمة)، هي أكبر محاولة من نوعها لإعادة صياغة شكل الحياة في ريف مصر. فالقاهرة ومدن مصر الكبرى هي واجهات مصر الثقافية والعمرانية والاقتصادية، لكن النهضة الجارية في الحواضر المصرية لا تعكس الخبرة الحياتية التي يمر بها المصريون، الذين ما يزال أغلبهم يعيش في الريف، بكل ما تعنيه الفجوة بين ريف مصر وحواضرها من خصم من رصيد التكامل الوطني والحقوق المتساوية للمصريين”.
• القرية.. منتج الثروة
وأضاف أن “الحضارة المصرية هي حضارة زراعية، فالأرض والفلاح هما مصدر الثروة التي
مولت تشييد مظاهر تلك الحضارة منذ عصر ملوك الفراعنة العظام. لكن بينما كان يجري
توجيه فائض الثروة للنهوض بجودة الحياة في العاصمة والحواضر الكبرى، بقي الريف المصري على حاله لقرون طويلة، باستثناء جهود قليلة متفرقة”.
وتابع أن “الريف المصري تشكل تلقائيًا منذ آلاف السنين، عندما تكونت تجمعات بشرية صغيرة، كان كل منها نواة لقرية مصرية من آلاف القرى التي صنعت ريف مصر عبر التاريخ. واختار المصريون المناطق المرتفعة، من التلال والأكوام، ليبنوا عليها بيوتهم، حماية لها من الفيضان، في حين زرعوا الأراضي المنخفضة المحيطة بهذه المرتفعات الصغيرة، والتي سهل انخفاضها، وقربها من مستوى المياه في النهر، حصولها على ما تحتاجه من مياه الري بأقل جهد ممكن لرفع ونقل المياه”.
وأكمل: “كان الفيضان يأتي كل عام ليغمر الأرض الزراعية المنخفضة، فيما تظل البيوت المبنية
على الأرض المرتفعة في مأمن. مع انتهاء موسم الفيضان، تنحسر مياه النهر لتكشف عن أراضٍ خصبة جاهزة لغرس البذور، فينزل الفلاحون من قراهم المرتفعة ليعملوا في الحقول، حرثًا وغرسًا وحصادًا، حتى يأتي الفيضان في دورته الجديدة”.
وأشار إلى أنه “نظرًا لمساحة الأرض المحدودة فوق الكوم أو التلة التي بُنيت عليها القرية، فإن شوارع القرية ضيقة، وبيوتها متلاصقة. لقد ولّدت هذه التجمعات القروية نمطًا اجتماعيًا لحياة
ثقافية واجتماعية مشتركة، اتسمت بالتزاحم في سبيل تسهيل التعاون والاحتماء المتبادل من مخاطر الفيضان، فمنحت التكوين الاجتماعي المصري أهم ملامحه: الازدحام بكل ما يسببه من صراعات، وكل ما يوفره من فرص للتضامن.
ولفت إلى أن “القرية المصرية بهذا التصميم هي الإبداع التلقائي للفلاح المصري، منتج الثروة، وسبب الحياة ومصدر الخير في هذا الوادي القديم. لكن بينما كانت العاصمة والحواضر تزدهر،
ظل الريف محكومًا بحتميات النهر والفيضان، فكانت المدينة تتغير، فيما بقي الريف ثابتًا على حاله في حتمية وقدرية لا فكاك منها، فكان الفلاح المصري في مطلع القرن العشرين يمارس حياته بنفس الطريقة التي عاش بها الفلاح في زمن ملوك مصر من عظام الفراعنة، وهو ما تشهد به الرسومات
على جدران المعابد، وما جاء في كتاب (وصف مصر) بعد ذلك بـ3 آلاف عام”.
• تحديث دون مواءمة
وقال: “لقد جرى تحديث نظام الري المصري، بدءًا من القرن التاسع عشر، وتم إنشاء القناطر والترع والمصارف الكبرى، أعقب ذلك بناء الخزانات والسدود، بدءًا بسد أسوان 1906، الذي
تمت تعليته مرتين بعد ذلك خال العقدين التاليين. لقد سمحت هذه المشروعات بإحداث تغيير تدريجي في العلاقة بين الفلاح والأرض والنهر، وسمحت بزراعة المزيد من الأرض والمحاصيل، وزيادة الثروة. غير أن التحرير الكامل للريف المصري من الاعتماد على الفيضان لم يحدث إلا بعد بناء السد العالي، الذي مكّن مصر من السيطرة الكاملة على الفيضان”.
واستطرد: “لم يعد بذلك خطر الغرق قائمًا، كما لم تعد الحاجة قائمة لمواصلة السكن فوق الكوم أو
التل، فنزل الفلاحون من قراهم المرتفعة، وبنوا بيوتهم في أي مساحة خالية، في الوقت الذي زادت فيه مساحة الأرض المزروعة، وزادت كمية الغذاء المتاح، فيما كان تقدم الرعاية الصحية يتزايد في البلاد، منذ أن أدخل محمد علي باشا التطعيمات، وأنشأ المستشفيات الحديثة بمعاونة الفرنسي
“كلوت بك”، مؤسس كلية الطب المصرية”.
وأكمل: “أدى كل هذا إلى زيادة عدد السكان، وزادت الحاجة إلى مزيد من البيوت، وتوسعت القرية في اتجاه السفح، فاختلطت المساكن بالأرض الزراعية في عشوائية، وأصبح البناء على الأرض الزراعية ممكنًا، وأُقيمت قرى جديدة وتجمعات سكانية متفاوتة الحجم وسط الحقول، وهو أمر لم يكن من الممكن تصوره قبل السيطرة على الفيضان. لقد نشأت العزب نتيجة تطورات القرن
التاسع عشر، فالماك الكبار لم يفضلوا العيش في القرية المزدحمة فوق التل، واختاروا العيش وسط مزارعهم، وجذبت بيوتهم وملكياتهم الزراعية أسر الفلاحين التي عملت في أرض المالك الثري، وفي رعاية بيته الكبير المقام خارج القرية”.
وتابع: “حدث كل هذا تلقائيًا، ودون أي تخطيط مسبق، ودون أي محاولة للمواءمة بين متغيرات الاقتصاد والمجتمع والثقافة والاقتصاد والعمران، فكانت الأمور تحدث بمبادرات فردية، لتخدم المصالح الخاصة بالأسر الريفية، حتى لو كان في هذا تعارض مع مصالح المجموع الريفي والوطني”.
وأضاف: “لقد تغير التركيب الاجتماعي للريف، واختفى كبار الماك من الريف المصري بعد قوانين
الإصاح الزراعي، وبعد أن تولت قوانين المواريث تفتيت ما تبقى من ملكيات كبيرة، وانتشرت الملكيات القزمية بين سكان الريف الذين تضاعف عددهم عدة مرات. وانتقلت الملكيات الزراعية الكبيرة إلى الأراضي المستصلحة حديثًا في الصحراء، حاملة معها سمات عمرانية مختلفة تمامًا عن قرى الريف المصري القديم”.
وأوضح: “اختفى كبار الملاك من ريف الدلتا والوادي، لكن العزب ظلت قائمة، وهي التي نعتبرها
الآن توابع للقرى. أما المشكلة الكبرى التي تواجه القرى الحالية وتوابعها فتتمثل في نقص مساحات الأرض المخصصة للبناء والسكن، فزاد التزاحم، وأصبح من الصعب توفير الأرض اللازمة لبناء منشآت خدمية تستجيب لحاجات السكان، من المدارس والمستشفيات ومراكز الشرطة ومكاتب البريد والوحدات المحلية ومكاتب الجهاز الإداري للدولة”.
• المدينة تنزح الفائض
وأشار إلى أنه “لعقود طويلة لم يكن توفير هذه الخدمات خاضعًا لخطة حكومية، وإنما كان موضوعًا للواسطة والضغوط وممارسة النفوذ. لقد تولى الملاك الكبار القيام بهذه المهمة في قراهم وتوابعها في زمن ما قبل عام 1952، أما بعد الإصاح الزراعي فقد أصبح استجلاب الخدمات لأهل الريف هو المجال الرئيسي للمنافسة بين المتنافسين على الفوز بثقة الناخبين الريفيين في الانتخابات
النيابية، وكانت هذه هي فرصة أهل الريف الوحيدة للحصول على الخدمات، في ظل انشغال الحكومة بأولويات أخرى”.
ولفت إلى أن “المفارقة هي أنه بينما كان السياسيون والمثقفون من أهل المدينة ينظرون باستعلاء لنائب الخدمات الريفي، لأن الحكومة كانت توفر لهم ما يحتاجونه دون حاجة لوساطة النائب، فإن الأخير كان هو فرصة أهل الريف للحاق ببعض الخدمات. بل إنه بينما كان الريف هو المصدر الأساسي لإنتاج الثروة في البلاد، فإن فائض هذه الثروة يتم نزحه إلى المدينة، ليعاد استثماره فيها، سواء في شكل مظاهر بذخ اجتماعي استفزازي، أو من أجل إنشاء مشروعات عمرانية وخدمية
وصناعية تستجيب لحاجات أهل المدن. حدث هذا بسبب ظاهرة الماك الكبار الغائبين، الذين كانوا يستمدون ثروتهم من الريف، فيما كانوا يعيشون في المدينة، بلا أي مصلحة في إعادة استثمار جزء من مداخيلهم لتنمية الريف، فقد كان مكتوبًا على الريف أن يواصل تمويل رفاهية المدينة، حتى بعد
أن أصبح الفلاحون يصوتون في الانتخابات، وبعد أن أصبح لهم حزب وطني يضعون
ثقتهم فيه (حزب الوفد)”.
وتابع: “لقد أطلق المصلحون الدعوات لرفع الإجحاف الواقع على أهل الريف، منذ مطلع القرن العشرين، وحاولت بعض الحكومات الاستجابة لهذه الدعوات، غير أن برنامجًا متكاملاً للنهوض بالريف لم يتم تنفيذه طوال هذه السنوات. كانت حكومة علي ماهر باشا هي صاحبة أول محاولة طموحة للنهوض بالريف، فأنشأت وزارة الشئون الاجتماعية في عام 1939، وتوالت في السنوات التالية برامج النهوض بالريف، فتم إقرار قانون الصحة القروية، وأنشأت وزارة المعارف سلسلة المدارس القروية، لكن كل هذه الجهود جاءت جزئية ومتقطعة، لم تترك أثرًا مهمًا على وجه الحياة في الريف”.
وأكمل: “كان لدى ثورة يوليو طموحات كبيرة تخص الريف، وكان لقوانين الإصاح الزراعي أثر مهم في تعزيز فئة الفلاحين الصغار والمتوسطين، وإعادة توزيع الدخل في الريف. غير أن حكومة الثورة واصلت نزح الفائض الاقتصادي من الريف لاستثماره في المدينة، من خال نظام الدورة الزراعية، واحتكار الدولة لتجارة المحاصيل الرئيسية. لقد كان فائض الإنتاج الزراعي هو مصدر تمويل برنامج التصنيع الطموح، ومشروعات التنمية والخدمات الكبرى في المناطق الحضرية.
صحيح أن الريف قد حصل على بعض المنافع في شكل بناء المدارس ودور الرعاية الصحية ومنشآت خدمية متنوعة؛ إلا أن الفجوة بين الريف والمدينة ظلت متسعة، وظل الريف مرادفًا للفقر ونقص الخدمات”.
واستطرد: “حاول نظام (مبارك) الإدلاء بدلوه في مسألة تنمية الريف، ووضع في سبيل ذلك، في عام 1993، برنامج (شروق)، وهو برنامج طموح لتنمية الريف؛ إلا أن الأفكار الرائعة التي وردت في هذا البرنامج لم تذهب بعيدًا عن صفحات الورق الذي كُتبت عليه. كانت كل محاولة من هذه المحاولات تترك أثرًا ضئياً على وجه الحياة في ريف مصر، وعبر هذه الآثار الضئيلة المتناثرة، تغير وجه الحياة في الريف المصري ليصل إلى الصورة التي نعرفها اليوم، والتي لم تصنعها البرامج الحكومية، بقدر ما صنعتها عشوائية مبادرات الأهالي، خاصة مع انتشار ظاهرة العائدين من النفط، بكل ما في ذلك من فجوة في جودة الحياة بين الريف والمدينة، ومن اختلاط مظاهر الحياة الحضرية والريفية بشكل عشوائي، ومن تزاحم ونقص في أماكن السكن والخدمات، ومن تعدٍّ على الأرض الزراعية”.
• مشروع طموح
وأشار إلى أن “(حياة كريمة) هو برنامج جديد يستهدف جودة حياة أهلنا في ريف مصر، ولكنه ليس مجرد برنامج إضافي سيتعثر بعد قليل، مثلما تعثرت البرامج والخطط التي جربتها الحكومات من قبل.
لقد تم وضع برنامج (حياة كريمة) ليصل إلى منتهاه، لأن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تخصيص تمويل كبير كافٍ لتغطية احتياجات برنامج للتنمية الريفية طوال فترة تنفيذ البرنامج؛ كما يجري فيها تحويل الموارد من المدينة إلى القرية بغرض تنمية الأخيرة؛ وأيضًا تُظهر فيها القيادة السياسية هذا المستوى الرفيع من الالتزام الشخصي والمباشر بتنفيذ البرنامج؛ حيث ينشغل رئيس الدولة بتدارس وتوجيه أدق تفاصيل المشروع، وأظن أنّ في هذا ما يكفي من ضمانات لإنجاح هذا المشروع الطموح”.
• بدء فعاليات المؤتمر الأول لمشروع حياة كريمة اليوم
وبدأت مساء اليوم الخميس، فعاليات المؤتمر الأول للمشروع القومي (حياة كريمة) لتنمية قرى الريف المصري، تحت رعاية الرئيس عبدالفتاح السيسي، وبحضور رئيس الوزراء الدكتور مصطفي مدبولي، وعدد من الوزراء، وآلاف المواطنين الذين يمثلون كل طوائف الشعب المصري، وعدد من الشخصيات العامة والإعلاميين ورجال الأعمال وممثلي المؤسسات المصرية والإقليمية والدولية، وذلك في ستاد القاهرة الدولي.
وذكرت مؤسسة (حياة كريمة)- في بيان اليوم- أن أجندة المؤتمر تشهد عددا من المشاركات الهامة لإبراز قصة كفاح ونجاح (حياة كريمة)، وبداياتها وما حققته حتى الآن بمختلف محافظات الجمهورية، علاوة على العديد من الفقرات الفنية والإنسانية المتنوعة.
وكان الرئيس عبدالفتاح السيسي قد أطلق مبادرة (حياة كريمة) في 2 يناير 2019 لتنمية الريف المصري، ثم تحولت لمشروع قومي في مُقتبل عام 2021؛ لتحسين مستوى المعيشة وجودة الحياة للفئات الأكثر احتياجًا في التجمعات الريفية على مستوى الجمهورية، لتسهم في الارتقاء بمستوى الخدمات اليومية المقدمة للمواطنين.
وتسعى (حياة كريمة) لتوحيد الجهود بين كل مؤسسات الدولة بالتعاون مع المجتمع المدني وشركات القطاع الخاص وشركاء التنمية في مصر وخارجها بملف التنمية المستدامة، كما تهدف للقضاء على الفقر متعدد الأبعاد، وذلك للتخفيف عن كاهل المواطنين، وخاصة الأسر الأكثر احتياجًا في القرى والمراكز المستهدفة، والبالغ عددها 4 آلاف و658 قرية باستثمارات تُقدر بـ700 مليار جنيه.
وتسهم في تحسين حياة أكثر من نصف سكان مصر، من خلال وضع خارطة طريق تنموية متكاملة تتناغم أهدافها ومحاورها مع أهداف التنمية المستدامة لمنظمة الأمم المتحدة، وذلك بتوفير حزمة متكاملة من الخدمات تشمل سكن كريم، وصحة، وتعليم، وثقافة، وبنية تحتية، وبيئة نظيفة، ومجتمعات منتجة؛ لضمان استدامة التنمية بالقرى والمراكز المستهدفة.
وتتلخص أهداف المبادرة في الارتقاء بالمستوى الاقتصادي والاجتماعي والبيئي للأسر الأكثر احتياجا بالقرى الفقيرة، وتمكينها من الحصول على كل الخدمات الأساسية، وتوفير فرص عمل وتعظيم قدراتها الإنتاجية، بما يسهم في تحقيق حياة كريمة لهم، وتنظيم صفوف المجتمع المدني وتعزيز التعاون بينه وبين كل مؤسسات الدولة، والتركيز على بناء الإنسان والاستثمار في البشر، وكذلك تشجيع مشاركة المجتمعات المحلية في بناء الإنسان وإعلاء قيمة الوطن.
ويتكون العدد من 72 صفحة، ويحوي ملفا خاصا يضم موضوعات بعنوان “حياة كريمة.. عودة الفائض لتنمية الريف”، و”تطوير الريف.. عماد المشروع الوطني المصري”، واقتصاديات (حياة كريمة) بين التمويل والتنمية”، و”الفجوة بين الريف والحضر.. مؤشرات تنموية”.