مصطفي الفقى يكتب: لماذا تخلفت الديمقراطية فى المنطقة العربية؟
يملك العرب نظريات موازية لكل ما يمر بهم فى حاضرهم أو مستقبلهم وهو أمر يدفع إلى اجترار الماضى والنزوح إليه باستمرار ليس ذلك اتهاما نشير إليه ولا عيبا نعاير به، إنما هى حقيقة موضوعية نناقشها بكل تجرد، تكاد تستوى فيها أو فى جزء منها كل الدول العربية مع استثناءات محدودة لفترات قصيرة، إلا أننا كعرب غير متهمين بالديمقراطية أو ميلاد الدولة العصرية، ونحن نشترك فى ذلك مع أمم أخرى غير عربية وغير إسلامية، فالمشكلة أكبر من ذلك وأضخم، ولو تأملنا التاريخ العربى منذ صدر الإسلام حتى الآن لوضعنا أيدينا على بعض المفاتيح التى أدت إلى ما نشهده من أحداث وما نحمله من ذكريات، واضعين فى الاعتبار أن هذه السطور تسعى لتوصيف الواقع وعلاج المرض والصعود إلى مرتبة تستحقها الشعوب العربية على سلم الدولة المدنية الحديثة والديمقراطية المعاصرة بكل ما لها وما عليها، وسنحتكم إلى استقراء التاريخ أحيانا واستدعاء أحداثه الكبرى أحيانا أخرى، ونقدم عبر النقاط التالية تصورا للحاضر وتوقعا للمستقبل مع إشارات أمينة إلى الماضى فى تراثنا الفكرى والسياسى وهويتنا القومية:
أولا، يملك العرب نظريات موازية لكل ما يمر بهم فى حاضرهم أو مستقبلهم، وهو أمر يدفع إلى اجترار الماضى والنزوح إليه باستمرار، فإذا تحدثنا عن البرلمان الحديث كان الرد أن تراثنا الإسلامى يحمل فى طياته مشاهد مثيلة لما نتحدث عنه، فاجتماع سقيفة بنى ساعدة (على سبيل المثال) هو مظهر من مظاهر الديمقراطية عند اختيار أول خليفة بعد رحيل النبى محمد صلى الله عليه وسلم، وإذ تراجع كثيرون ممن اعتنقوا الإسلام فى تلك المرحلة الخطيرة من تاريخ الدعوة تردد القول الصائب «من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبدالله فإن الله حى لا يموت»، كما تشدد أبو بكر رضى الله عنه تجاه مَن امتنعوا عن دفع الجزية وقال قولته الشهيرة «والله لو منعوا عنى عقال بعير كانوا يدفعونها لرسول الله لقاتلتهم عليه»، فالديمقراطية بالمفهوم الإسلامى كانت تعطى الحاكم الفرد مسوغا لكى يفعل ما يشاء ويتصرف كما يريد، وأنا أريد أن أقول هنا إنه ليس صحيحا أن الإسلام الحنيف يعادى الديمقراطية الغربية، بل هو يرى أن لديه نظرية متكاملة تغنى عن الممارسات الانتخابية الغربية عند اختيار الحاكم أو إعطاء البيعة، ولكن الذى حدث هو نوع من الانقلاب العقلى الذى جعل جمهرة المسلمين يلتقطون عبارات من الثورة الإسلامية التى فجرتها الدعوة المحمدية فى مجتمع جاهلى خاصم الحرية، وأدمن الرق والعبودية وابتعد عن حقوق الإنسان فجاء الإسلام لكى يكون تصحيحا إلهيا من ظلامات الفوضى وأوثان الجاهلية.
ثانيا، إن الأمر المحزن حقا هو تلك الازدواجية التى عاشها العرب فى العصور الحديثة، إذ لديهم فى تراثهم التاريخى وذاكرتهم الدينية ما يجعلهم يؤمنون بأن الإسلام قدم نظرية للسياسة والحكم، وأن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم على أن تكون لهم الجنة فى نهاية حياتهم، كما أن ظهور ومضات من العدل السياسى والشورى قد جعلت الأمر يختلف فى أعين المسلمين بالمقارنة مع ما يجرى فى الغرب من تجاوزات وخروقات لحقوق الإنسان وأساليب التفكير، فهناك من العرب مَن ينتزع عصر الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبدالعزيز الذى عُرف بالعدل والتقى والورع، وينسبه عن حق إلى الإسلام بمبادئه السامية بعيدا عن نسبته لبنى أمية بما فى تاريخهم من صراعات ودماء ومظالم، فانحياز المسلم لدينه هو أمر طبيعى حرمه من تأمل الديمقراطية الغربية ونجاحاتها عبر القرون، على الرغم من اعترافنا بأنها تمر بأزمة حقيقية فى زماننا المعاصر، فالكل يعترف بأن الديمقراطية الغربية ليست فى أزهى عصورها، ولا أفضل أحوالها حتى أن كثيرا من المفكرين السياسيين ينذرون بنهاية الديمقراطية الغربية بعد عقود قليلة.
ثالثا، إن العربى بطبيعته نازح إلى ماضيه، منفصل عن حاضره، يردد الأناشيد والأذكار ويقرأ فى ديوان الحماسة ويلوك أمجاد العرب صباح مساء، بينما الدنيا تجرى حوله والتكنولوجيا الحديثة تقطع الطريق على الجميع، إذ إن أدوات العصر الجديد تؤدى إلى نقلة نوعية فى أساليب الحياة وأنماط السلوك، لذلك لا بد أن يخرج العرب من شرنقة الماضى، وأن يعيشوا ويتفاعلوا مع حياة العصر كما يجب أن تكون، وأن يتمكنوا فى كل وقت من أخذ أفضل ما فيه ولا يظلوا أسرى للماضى يفتشون فيه عن بديل للعصر الذى يعيشونه، فلكل عصر ما يناسبه، ولكل أوان ما يتماشى معه، ومن العبث أن نتوهم أن الماضى هو الذى يحكم وأن التراث أقوى من المعاصرة، فتلك أطروحات تتميز بالعناد ولا تعرف التسامح الفكرى أو الانفتاح العقلى.
رابعا، خلط العرب بين الدين والقومية، بين الإسلام والعروبة، وحسبوا أن كل ما يُنسب إلى الإسلام هو عربى، وأن كل خصائص العروبة تلحق الإسلام على الجانب الآخر، وتلك محاولات تتسم بالتعميم ولا تعرف معنى التخصيص وحسن الاختيار، فالعروبة هوية بينما الإسلام عقيدة، وليس كل العرب مسلمين ولا كل المسلمين عربا، فالدمج بين الأمرين يؤدى دوما إلى كثير من الاضطراب فى تفسير الحقائق ومواجهتها ووزن الأمور للتعرف عليها، فقد عايش العرب فترات صعود وهبوط ومراحل انتصار وانكسار إلى أن جاء عليهم حين من الدهر اتسمت فيه المنطقة العربية بالتراجع بعد أن تمكنت منهم السيطرة الأجنبية، وحكمت عليهم المتغيرات الدولية بأن يكونوا أحيانا خارج دائرة العصر، ولقد حان الوقت الآن لتدبر الأمر والفكاك من قيود الماضى، ولعل ما جرى فى جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية كنموذجين لدولتين كبيرتين تعبران عن ثقل عروبى وإسلامى، ما يؤكد أن الانطلاق إلى المستقبل ممكن، وأن التحليق فى سماوات العقل وارد، وأن قيود الماضى وأغلال الفكر الظلامى لا بد لها أن ترحل عن العقل العربى حتى تفتح الأمة الأبواب والنوافذ وتستقبل التيارات الفكرية العصرية والديمقراطية الحديثة مع احترام حقوق الإنسان.
خامسا، يجب علينا كشعوب تعيش فى مهبط الأديان السماوية الثلاثة أن نباهى بالثراء الروحى الذى نمتلكه والعطاء الدينى الذى آل إلينا، بشرط أن يكون ذلك فى إطار من الوعى والرشاد والقدرة على التمييز بين الأمور فى كل شئون حياتنا ومراحل مستقبلنا، فقد آن الأوان لزوال السحب والغشاوات التى سكنت الوجدان العربى وحرمته من إعمال التفكير الرشيد وأبعدته عن الرؤية الصادقة، فكان الثمن غاليا وكانت الضريبة فادحة دفعناها من دماء شعوبنا وموارد أوطاننا دون أن ندرك أن الثمن فادح، على الرغم من أن الخلاص يبدو ممكنا، وأن كسر قيود الماضى أصبح حتميا. ويجب أن نتذكر دائما أن الاغتراب عن العصر الذى تعيشه البشرية هو نوع من العزلة والحرمان القسرى عن مزايا التقدم ومباهج العصر وأضواء المستقبل، خصوصا أن هناك ومضات ضوء فى حاضرنا توحى بأننا نقف فى بداية الطريق الصحيح نحو مجتمع الأمل الذى ننشده، والذى يتمتع فيه البحث العلمى بأولوية متميزة، ويظل الدين فيه حارسا للقيم، ولكن يبقى العقل قائد المسيرة، وهو الذى يمسك بزمام الأمور، حيث لا مكان هنا للخرافة أو تزييف الوعى أو العبث بالعقول. مرحبا بالديمقراطية العصرية والدولة الحديثة دون العدوان على التقاليد السليمة والقيم الرشيدة والثوابت المرنة التى تستجيب لمتغيرات الزمان وقوانين الحياة، ولنتذكر دائما أن أدق مفهوم وأحدث تعريف للدولة الديمقراطية، هو أنها دولة سيادة القانون الذى يجب أن نحتكم إليه ونخضع لسلطانه ونؤمن بسيادته دوما فى مساواة كاملة وعدالة ناصعة دون تفرقة أو تمييز أو تهميش، فالكل سواء أمام العدالة العمياء.
نقلا عن إندبندنت عربية