رالف رانكيك.. نحو تنظيف سماوات سولشاير الرمادية
لنلعب لعبة سريعة، إليكم عينة منتقاة بعناية من حديث رالف رانكيك، الرجل الذي سيتولى قيادة مانشستر يونايتد مؤقتا لنهاية الموسم خلال الساعات المقبلة..
“انظروا إلى ليفربول وتطوره مؤخرا، لديه 3 مهاجمين من جنسيات مختلفة، صلاح وفيرمينو وماني. حين وصل الثلاثي إلى ليفربول لم يكن بينهم مسترجعا طبيعيا للكرة، لم يكن هناك من ينظر إليهم ويقول إنهم ماكينات ضغط”.
“كل ما حدث في ليفربول كان عمل المدرب وطاقمه، بداية من الطريقة التي لعبوا بها في الأعوام الأخيرة بهذا النسق المرتفع، هذا يظهر لكم ما يمكن أن يحدث إذا كان هناك بعقلية وأفكار واضحة عن طريقة لعب فريقه”.
“شيء آخر كان يتشابه مع فريقنا في لايبزيج، افترضوا أن يورجن كلوب أو يوليان ناجلزمان أو أنا، أي منا أخبر لاعبيه في الساعة 12 منتصف الليل أننا سنلتقي على أرض التدريبات بعد ساعة، سنجري اجتماعا سريعا في غرفة الملابس ثم نلعب مرتين لمدة 15 دقيقة بـ11 لاعبا ضد 11”..
“حتى في حالة النوم هذه سيلعبون الكرة السريعة التي تعتمد على الضغط والضغط العكسي والتحولات، لأن الأمر في قلوبهم وعقولهم وشرايينهم. ما هو عمل المدرب؟ أن يملك فكرة واضحة عن كيف يجب أن يلعب الفريق، سواء كان هذا أسلوب بيب جوارديولا أو دييجو سيميوني أو هانزي فليك أو ناجلزمان أو كلوب”.
والآن، إليكم عينة عشوائية للغاية من حديث أولي جونار سولشاير، المدرب السابق للشياطين الحمر..
“طريقة الخسارة هي ما لا يعجبنا. حين تخسر مباراة أمام فريقا جيدا، فأنت تريد رؤية فريقا لمانشستر يونايتد أفضل من ذلك. نحن بشر، وحين تخسر مباراة لكرة القدم، لا يوجد شعور أفضل من الفوز بمباراة”.
“يجب أن نذهب لملاقاة (الخصم التالي) مثل حيوان جريح. الإجابة القصيرة هي أن هذه المباراة أتت في توقيت جيد بالنسبة لنا”.
هذه واحدة من أحدث العينات، كونك لن تجد في أغلب أحاديث النرويجي إلا هوية مانشستر يونايتد وحمض مانشستر يونايتد النووي والطريقة التي يجب أن يلعب بها مانشستر يونايتد، مطاطية هذه التعريفات تتجلى تبعا للنتيجة..
إذا فاز الفريق بأداء جيد ستسمعه يقول أن هذا هو مانشستر يونايتد الذي نحب رؤيته، أما إذا خسر فإن هذا ليس مانشستر يونايتد الذي نريد رؤيته، أسئلة مثل: ما هو مانشستر يونايتد الذي نريد رؤيته؟ كيف نتمكن من رؤيته؟ ما الذي لم يجعلنا نراه؟ كلها أسئلة منطقية ومشروعة ولكن رجاء احتفظ بها لنفسك كما احتفظ بها في المواسم الماضية، فالرجل كالعادة لن يجيب..
لنتوقف عن العبث.. كلمات سولشاير أتت بعد خسارة الدربي أمام مانشستر سيتي، أما (الخصم التالي) فهو واتفورد، الذي كانت تقتضي خطته الهجوم عليه كالحيوان الجريح، قبل أن يثخنه بالمزيد من الجراح. خماسية من ليفربول المرشح للقب هي شيء، ورباعية من فريق يصارع ويلات الهبوط هي شيء آخر تماما..
بين القلب والمنطق
You are my Solskjaer
My Ole Solskjaer
You make me happy, when skies are grey
منذ اللحظة الأولى وحتى الأخيرة في تجربة سولشاير مع يونايتد، لم يكن المهم هو العقد الذي أبرمه مع الإدارة، بل العقد الذي يملكه مع الجماهير، وها قد اطلعنا على نصوصه بالفعل.. أنت الرجل الذي “يجعلني سعيدا حين تكون السماوات رمادية” على غرار أغنية “جوني كاش”، أنت بطل ليلة 1999 الخالدة، أنت البديل الذهبي الذي كلما احتجناه أتى فسجل واحتفل فاحتفلنا معه.
أتى الرجل في توقيت ويا له من توقيت، نجم جماهيري محبوب يخلف مدربا قرر البقاء في وظيفته بلا عمل فعلي حتى يتقاضى شرطه الجزائي، لديه خلافات مع الإدارة وغالبية اللاعبين ونصف سكان مانشستر وثلث آثار العالم، جوزيه مورينيو، الكل يعرف جيدا ماذا يفعل البرتغالي إن تعثرت دابة في العراق فما بالك بهذا الوضع؟
بطبيعة الحال حظي سولشاير باستقبال الفاتحين قبل أن يلعب، أسطورة النادي يتولى قيادة الفريق بعد سابقه، هذا الرجل لن يحظى فقط بانتفاضة اللاعبين الطبيعية مع أي مدرب جديد، ولا حتى بانتفاضتهم المضاعفة لإثبات أن المدرب السابق كان المشكلة، بل فوق كل ذلك باحترام بديهي من أبناء النادي الواعدين كونه كان رجلا يتطلعون إليه، وبدعم غير مشروط من جماهير تعشقه.
شيء وحيد يملكه سولشاير ولم يملكه مويس أو فان خال أو مورينيو: روح مانشستر يونايتد. تعاليم سنوات من العمل مباشرة تحت قيادة سير أليكس فيرجسون، الرجل الذي صنع ثلثي تاريخ النادي ووضعه على زعامة البريميرليج.
هذه الروح المفقودة هي أنسب ما يقود الفريق نحو انتفاضة تغير وضع هذا الموسم من الفشل إلى أقل الأضرار، على أن يملك المدرب الجديد في بداية الموسم القادم أرضية صلبة يبني عليها بعد توجيه خالص الشكر للبطل النرويجي الذي أتى من الباب الكبير وغادر منه، مضيفا ذكرى جميلة أخرى في صفحات علاقته الأبدية بجماهير أولد ترافورد..
اللعنة على القلب
ولأن البعض أساء تفسير حقيقة أن أحدهم فشل بترك يده في موقعها الطبيعي في اللحظة الأخيرة، نعم أنت أيها الكيمبيمبي، ولأن البعض الآخر أفرط في الحماس وأخرج أول ورقة وجدها في طريقه وطالب إدارة يونايتد بالحصول على توقيع سولشاير فورا وبأي ثمن، ولأن إدارة يونايتد -كما تعلمنا جيدا في آخر 8 سنوات- لا تملك أدنى فكرة عما تفعله على الصعيد الكروي، تحول المؤقت إلى دائم، وأهدر الشياطين الحمر سنوات من البناء في اتجاه محدد وواضح، لحساب محاولة فاشلة بداهة لإعادة إنتاج فيرجسون.
بعض الحقائق لا يمكن إنكارها.. سولشاير يترك اليوم فريقا أفضل من الذي تسلمه بعد أن نافس به لبعض الوقت -بطريقة ما- على صدارة البريميرليج قبل أن يبتلعها مان سيتي. سولشاير اقترب كثيرا من عدة كؤوس ولكنه لم يضع يده على أي منها في النهاية، شرف المحاولة نجاح، ولكن نجاح سولشاير الأهم مع مانشستر يونايتد يتمثل في الطفرة التعاقدية على مستوى الأسماء ورفع جودة القائمة وسد العديد من نواقصها، ولكن ألا يميل هذا إلى توصيف وظيفة المدير الرياضي؟
نعم، مانشستر سيتي يملك إدارة داعمة ومدير رياضي مميز، ولكنه يملك منظومة بيب جوارديولا التي بدأ إنشاؤها في صيف 2016. ليفربول لا يملك إدارة بنفس القوة المالية لسيتي ولا حتى يونايتد، ولكنه يملك إدارة رياضية مميزة وعليها منظومة يورجن كلوب التي تحملت لأجلها كل النتائج السيئة في بادئ الأمر منذ نهايات 2015، وكل مراحل الاقتراب والإخفاق حتى تحقق دوري الأبطال 2019 ثم البريميرليج الغائب عام 2020.
هذا بالضبط ما أهدره مانشستر يونايتد في 3 أعوام مع سولشاير.. جودة القائمة ترتفع، هناك شباب يتطورون ويفرضون أسماءهم على الساحة، ولكن في اللا شيء، فالمنظومة هي الركض والجهد وبذل آخر قطرة عرق لأجل الشعار، المنظومة هي تقاليد مانشستر يونايتد وحمضه النووي، المنظومة هي فعل كل ما كان يبدو أن فيرجسون يفعله دون فعل ما كان فيرجسون يفعله حقا.
إلى المربع صفر
الجزم بنجاح أي شيء من عدمه قبل أن يبدأ هو جنون بطبيعة الحال، خصوصا وأننا نتحدث عن مدرب مؤقت، مهمة المدرب المؤقت دائما هي الخروج بأفضل ما يمكن الخروج به قبل أن يتصافح الجميع وتنتهي الرحلة هنا، ولكن ما نريد الحديث عنه الآن هو نجاح ما بعد رانكيك من عدمه..
نتحدث عن رجل يعد ضمن المساهمين بزيادة شعبية دفاع المنطقة في مواجهة رقابة رجل لرجل السائدة منذ قديم الأزل. رجل له يد في شكل “الجيجن بريسينج” أو “الضغط العكسي” أو بالأحرى الإرث الذي اكتسح به يورجن كلوب أراضي الإنجليز. رجل لا يملك نجاحا باهرا كمدرب، ولكنه حلقة الوصل بين أسماء استقى منها وحيه مثل أريجو ساكي وزيدينك زيمان وفاليري لوبانوفسكي، وينسب له فضل التأثير في أسماء كاسحة على الساحة الآن مثل توماس توخيل ويورجن كلوب ويوليان ناجلزمان.
فرضت تجربته مع مشروع لايبزيج الواعد اسمه على ساحة المدربين بعد أعوام من تجربته الأنجح مع شالكه، ولكن للمفارقة، فإن ذروة انتشار اسم رانكيك على الساحة الأوروبية أتت في فترة لم يكن يدرب بها من الأصل.. مرحلة اقترابه من ميلان، أو بكلمات أخرى: حين واجهت إدارة الروسونيري مفترق الطرق الأشهر في الآونة الأخيرة.
ميلان كان يملك مدربا مؤقتا -آنذاك- وهو ستيفانو بيولي، في الوقت ذاته كان يفاوض رانكيك على تسلم المهمة بصورة دائمة، ولكن بعد عشرات الأطروحات ومئات الاجتماعات وآلاف المكالمات، عرقل فيروس كورونا العملية، وحين عادت كرة القدم إلى الحياة كان بيولي يحقق سلسلة من النتائج المذهلة..
هنا تحول الأمر من بحث المشروع المستقبلي إلى المفاضلة بينه وبين النجاح الحالي، وهنا قررت إدارة ميلان أن المخاطرة قد تقود إلى الندم، دعه يمر، دعه يسير.. وهكذا أصبح بيولي هو مدرب ميلان الدائم في لحظتنا الحالية.
لا يمكن القول أن ميلان نادم على قراره الآن، فالفريق يواصل المضي قدما للأمام وفي النهاية مشروع رانكيك كان محفوفا بالعديد من المخاطر أولها بداهة هو قابلية تطبيقه على أرض الواقع ومدى توافق الآليات المتاحة، والأمر الآن مرهون بالإدارة وبيولي نفسه في البناء على ما تحقق بالفعل، وهذا سؤال سيجيبه الموسم الحالي وربما المزيد من المواسم التالية إن استمر الرجل في سيره للأمام..
بالعودة إلى مانشستر، وقف أحمر المدينة في المفترق ذاته قبل ميلان، بين المؤقت والبحث عن المشروع، فراهن على بعض النتائج المؤقتة ونشوة الانتصار ومزيج من هتافات الجماهير الحالمة، لا يمكننا الآن أن ننكر وجود خطوات للأمام مع سولشاير، ولكن على النقيض التام، فكل خطوة سارها بيولي للأمام كانت تثبت أنه الأصلح لمنصبه في الوقت الحالي، أما كل خطوة يقترب منها سولشاير فلم تكن تثبت سوى صحة وجهة النظر الأولى، أنه مؤقت طال بقاؤه أكثر مما يلزم..
أول ما يثير التفاؤل حيال رانكيك أنه رجل منظومة. رجل مشروع كروي حقيقي، ما يعني أنه بأي حال من الأحوال سيستغل وقته في التأسيس، ولكن ما يثير التفاؤل حياله أكثر من ذلك يأتي بين ثنايا اتفاقه مع إدارة مانشستر يونايتد، فالرجل لا يبدي أي طمع في الاستمرار كمدرب للشياطين الحمر، حيث سينتقل بنهاية الموسم إلى منصب استشاري في الإدارة الرياضية بعقد مدته عامين لمواصلة الإشراف على المشروع، ويا لسخرية القدر، ربما هذا ما كان يجب أن يحدث مع سولشاير منذ البداية، وربما لما اضطر يونايتد لإضاعة كل هذا الوقت قبل أن يبدأ من المربع صفر.
استمرار رانكيك كجزء من المشروع هو ضمانة لوجود مشروع حقيقي هذه المرة من الأصل، ثم ضمانة لاستمراره.. كل ما تبقى الآن هو انتقاء البديل الدائم، والوقت كل الوقت في صالح النادي الآن، فلديك الفترة منذ بداية ديسمبر وحتى نهاية الموسم لإيجاد بديل منتقى بعناية يحرص على استمرار هذا البنيان الناشيء الذي سيعمل المدرب “المؤقت” على تمهيده.