في ذكرى ميلادها ال 79 .
عصام التيجي .. يكتب:
محطاتٌ في حياةِ سُعاد حسني .
سندريلا الشاشة العربية .. ضحك ولعب وجد وحزن.
—————————————
يخطئ من يتصور أن قَلَمَهُ لا يعجزُ عند سردِ شخصيةٍ بعينِها خاصةً تلك التي تؤثرُ بشكلٍ كبيرِ في مجتمعاتِنا ، بل وتتركُ فينا أثراً لا تمحوهُ الأيام أو يغطي تُرابَهُ الزمان .
فهناك شخصياتٌ يترددُ فيها قلمُك عند كتابةِ كلِ كلمةٍ بل حرفٍ عنها في مقالك ، فالكلمةُ محسوبةٌ وعشاقُ هذه الشخصيةِ يقفونَ وراءَك بالمرصاد .
والدليلُ أنني مازلتُ أبحث حتى الآن وبعد أن سطرت هذه الكلمات عن عنوانٍ لشخصيةِ اليوم .
وبعد تفكير عميق استقر في وجداني العنوان أعلاه معبراً عن الحياةِ الصاخبةِ التي عاشتَها شخصيتنا وعايشتنا فيها بين الحبِ والضحكِ واللعبِ والجد ، لكن بنهايتِها تركت بداخلِنا حزناً لن ينتهي أبداً .
السندريلا والحذاءُ الزجاجي . ————————————-
في الأساطيرِ القديمةِ عند كثيرٍ من دولِ العالم ومصر في المقدمةِ : تحكي وتتحاكى عن السندريلا صاحبة الحذاءِ الزجاجي التي أوقعت بجمالِها الملك في غرامِها وتزوجها . وأصبحت أيقونةً لكلِ فتاةٍ تبحثُ عن فارسِ الأحلام الذي يخطفها من كلِ متاعبِ الحياة على حصانِه الأبيض .
فالسندريلا التي نُسِجَ من حذائِها الكثيرُ من الرواياتِ والأساطير ، ستظلُ في مخيلةِ كلِ فتاة رمزاً للحبِ والجمال ، وسيظلُ فستانُها تميمةَ الأنوثةِ التي يتمناها فتى الأحلامِ في كل عصرٍ وحين .
سندريلا الأساطير .. بين الخيالِ والواقع .
——————————————–
شخصيةُ اليوم هي بالفعل السندريلا ، التي جمعت بين الخيالِ والواقع ، بل فاقت كل الروايات والأساطير .
سُعاد حسني “السفيرة عزيزة ” ، ” نعيمة ” معشوقة حسن المغنواتي في أشهرِ حكاياتِ التراثِ الشعبي ، قصةُ الحبِ المصريةِ التي كانت نقطةَ انطلاقتِها في عالمِ السينما عندما اختارها عبد الرحمن الخميسي كوجهٍ جديدٍ مع المطرب محرم فؤاد ليقدما سوياً دورَ البطولةِ في فيلم ” حسن ونعيمه ” الذي أنتجته شركةُ أفلامِ مٌحمد عبد الوهاب عام 1959 من إخراج هنري بركات .
فمنذُ بدايتِها الفنيةِ كانت سُعاد حسني هدفاً وحلماً في كلِ القصصِ والروياتِ التي تُقَدم على الشاشةِ الفضية .
وهي كذلك ، عَشَقَها جُمهورَها وأحبها بل رَاَحَ يبحثُ في كلِ إمرأةٍ عن السندريلا .
السندريلا .. الميلادُ والنشأةُ الفنية .
——————————————-
سُعاد حسني البابا ، وُلِدت في حيِ بولاق بالقاهرة في 26 يناير عام 1943 ميلادية لعائلةٍ فنية ، فوالدُها مُحمد حسني البابا الذي كان من أكبرِ الخطاطين في مصر ، وشَقيقتُها المطربةُ نجاة الصغيرة .
عَمِلت في الفن وهي طفلةُ صغيرة مع بابا شارو واكتشفها للسينما الشاعر عبد الرحمن الخميسي بعد أن أشركها في مسرحيتِه الشهيرة ” هاملت ” لشكسبير ، لتنطلق بعدها سُعاد حسني نحو النجوميةِ في عقدي الستينياتِ والسبعينياتِ من القرنِ العشرين .
وكل فيلمٍ من أفلامِ السندريلا هو محطة من محطاتِ تأريخ السينما المصرية .
فَلعِبت سعاد حسني غالبيةَ الأدوارِ التي يمكن أن تقدمها كلِ فناناتِ مصرَ مجتمعةً أمامَ الشاشةِ الفضية .
ويكفي ذكر بعضٍ من أفلامِها لنتعرف على طبيعةِ الأدوارِ التي كانت تقدمها :
” صغيرة علي الحب ، الزوجة الثانية ، القاهرة 30 ، خلي بالك من زوزو ، الكرنك ، أهل القمة ، غريب في بيتي ، البنات والصيف ، السفيرة عزيزة ” ، وغيرها من الأفلامِ التي وصلت إلى 91 عملاً سينمائياً .
بالطبع نحنُ ليس في معرضِ الحديثِ عن أفلامِها كلٍ على حدة ، بل نريدُ أن نتوقفَ عند محطاتٍ في حياةِ سعاد حسني ، محطاتُ صعودٍ وربما إخفاق لكنها في النهايةِ جعلت منها بحق سندريلا الشاشة العربية .
سُعاد وجاهين .. مشوارُ النضجِ والحب .
—————————————-
ذكرنا من قبل محطة البدايةِ والاكتشافِ مع بابا
شارو الي شاعرِنا الكبير عبد الرحمن الخميسي وهنري بركات مخرجنا المتميز ، لنأتي إلي محطةِ النضجِ والحب ” صلاح جاهين ” .
علاقتُهما كانت أكثر من مجردِ صداقةٍ فنية ، فقد اعتبَرته السندريلا بمثابةِ الأبِ الروحي لها والمستشار الفني لجميعِ أعمالِها التي وضعتها في تلك المكانةِ المرموقة لدى محبيها حتى بعد انقطاعها عن السينما ورحِيلِها عن الحياة .
بدأت معرفةُ جاهين بسعاد قبل لقائِهما بسنواتٍ عديدةٍ عندما شاهدها جاهين مطلةً كالقمر على شاشاتِ التليفزيون ، أثناءَ جلسةٍ مع أصدقائه فترك كل شيءٍ وأخبرهم أن ” البنت دي هتبقى أخطر فنانة في مصر ” .
وفي موسكو عام 1972 ميلادية كان اللقاءُ الأول الذي جَمَعَ بينهما أثناء سفر فريق عمل فيلم ” الناس والنيل ” للسندريلا مع المخرج العالمي يوسف شاهين وفي الوقت نفسه كان جاهين يتلقى العلاج هناك ، فقام شاهين بزيارتِه بصحبةِ الفنانة سُعاد حسني . وانطلقت صداقتهُما منذُ ذَلِك الحين ، وارتبط الاثنان بعلاقةٍ نادرة ، وقدما سويا أفلام : ” خلي بالك من زوزو ، أميرة حبي أنا ، شفيقة ومتولي ، المتوحشة ” ، وغيرها من الأعمال التي حققت نجاحاً جماهيرياً كبيراُ على الشاشةِ الفضية .
كما أقنعها جاهين بالاشتراكِ مع أحمد زكي في المسلسلِ التلفزيوني ” هو وهي ” ثم أغنية ” صباح الخير يا مولاتي ” لِتكونَ أخر الأعمال التي قدمتها التلميذة لأستاذها في التليفزيون .
وفاةُ جاهين .. النهايةُ الحقيقيةُ لمشوارِ السندريلا .
——————————————-
َََمَرِضَ صلاح جاهين ونُقِلَ الي المستشفى ولم تتركهُ سُعاد ، كانت تقرأ له القرأن وتدعو له بالشفاء حتى فَارقَ الحياة في 21 أبريل عام 1986 ميلادية ، وقتها قالت سعاد ” الآن مات والدي ورفيقُ مشواري وصديقي الغالي ” ، واكتئبت لعدةِ شهورٍ ورفضت الخروجَ من منزلها ، ما أدى إلى تدهورِ حَالتِها الصحية وأجبرها الأطباءُ على تناولِ بعضِ الأدويةِ والعقاقيرِ الطبية المضادة للاكتئاب .
جوانبُ إنسانيةٌ في حياةِ السندريلا .
—————————————–
سُعاد وجاهين علاقتهُما لم تنته بوفاتهِ فقد أصرت قبل رحيلِها على تسجيلِ أشعارِ الأستاذ لحسابِ هيئةِ الإذاعةِ البريطانية BBC عامي 1999 و 2000 ميلادية وأرسلتها لإذاعةِ الشرقِ الأوسط كهديةٍ تذاعُ في شهرِ رمضان الكريم .
السندريلا والعندلبب .. قصةُ حبٍ أفسدها الفن .
——————————————-
عيناه دائماً معلقةٌ بها كأنها الشمسُ التي يدورُ حولها ، لم يملك سوى أن يحبها الحب الذي تحول إلى جرحٍ غائرٍ في حياةِ كليهما .
علاقةُ سُعاد حسني وعبد الحليم حافظ ظلت منطقةً شائكةً ممنوع الدخول فيها طوال حياتهما ، وأصبحت لغزاً بعد رحيلِهما ، لكن جاء الوقتُ لنفضِ الغبارِ عنها ، فالمصادرُ تؤكدُ زواجَ العندليبِ من السندريلا .
ففي يومِ الأحدِ الثالث من شهرِ أبريل عام 1960 ميلادية تم الزواجُ بين العروسين تحت صيغة ” عقد زواج عرفي ” وكان يوسف وهبي ووجدي الحكيم شاهدين على العقد .
الزواجُ الذي استمر قرابةَ الخمسِ سنواتٍ أفسده الفن ، فالعندليبُ كان معشوقاً لجمهورِهِ وفتى أحلامِ جيله ، فخشي على مستقبله الفني وحياته التي يرى الجمهور أنها ملكٌ له ولا ينافسه عليها أحد .
السندريلا .. إحساسُ الحبِ من أولِ نظرة .
——————————————–
أًغرِمت به أُذُنَاها قبل أن تلقاه عيناها بسنوات ، عندما تَسَلَلَ إليها بصوتِه الحنون الذي ذابت فيه عشقاً ، وكان عليها أن تنتظر سنواتٍ حتى تلقاه في إحدى الحفلات التي كانت تحضرها برفقةِ شقيقتِها نجاة ، حيث لم تكن وقتها تتجاوز السَابعةَ عَشرةَ عاماً عندما تعرفت عليه في أولِ لقاءِ جَمَعَ بينهما ، ومن النظرةِ الأولى تَسَلَلَ الحبُ خلسةً إلى قلبيهما وكانت البدايةُ الحقيقيةُ عندما عملا معاً في فيلم ” البنات والصيف ” عام 1960 ميلادية .
السندريلا والأمنُ القوميُ المصري .
——————————————
محطةٌ ربما لم تكن محببةً عند جمهورِ السندريلا ولن أتوقف عندها كثيراً .
قال عنها الكاتبُ والشاعرُ الكبير كامل الشناوي ” إن الأكوابَ الفارغةَ كانت تتصارعُ علي شَفتيها عندما تطلب كوباً من الماء ” ، وفي هذا التوقيت كان جهازُ المخابراتُ المصريةُ يستخدمُ بعضَ العملياتِ التي يطلق عليها ” نشاط فريق السيطرة ” للحصولِ على المعلومةِ حفاظاً على
الأمنِ القوميِ المصري . ولأنها السندريلا تم تجنيدُها ، لكن صلاح نصر رئيس الجهاز وقتها كان يرى أنها “عميلة مخابرات خايبة ” وأنها لم تكن تؤدي المهامَ الموكلةَ إليها بكفاءة ، لأنها كانت تهتم بأمورٍ أخرى أكثر من المهام التي أُوكلت إليها . وأنها لم تقدم أي خدماتٍ للجهاز وانسحبت بسرعةٍ بعد عدةِ إخفاقات .
المحطاتُ كثيرةٌ ومتعددةٌ وتحتاجُ إلى مجلداتٍ ، لكن أبرزها ما توقفنا عنده ويهتم بها الجمهور . لتبقى المحطةُ الاخيرةُ في حياةِ السندريلا ” لندن ” .
محطةُ الحزنِ ” لندن ” .. وعمارةُ الموتِ ورحيل دنيا السندريلا .
——————————————–
هي المحطةُ التي أُسدِلَ فيها الستارُ على حياةِ السندريلا .
كانت سُعاد حسني تعاني طوالَ حياتِها من آلامٍ في العمودِ الفقري وعلى أثرِها أجرت عدةَ جراحاتٍ بالإضافةِ إلى إجرائها عملية زرع أسنان بالكامل في لندن والقيام بأنقاصِ وزنها الذي عانت من زيَادتِه في السنواتِ الأخيرة .
كشف الدكتور عصام حسني طبيب التخدير وعلاج الأورام وهو الصديقُ المقربُ لها في لندن ، بل كانت تقضي مع أسرته العطلة الأسبوعية في فيلته ، كشف عن الكواليسِ الأخيرةِ في حياة السندريلا قبل وفاتِها في 21 يونيو عام 2001 ميلادية .
يقول الطبيب المعالج : إن سعاد حسني استقرت في بريطانيا 3 سنوات و 11 شهراً و 12 يوماً ولم يقابلها في السنة الأولى من قدومها ، وعندما قابلها للمرةِ الأولى في العيادة تأكد أنها سيدة عادية وتمتلك خفة دم تحاول أن تخفيها قدر الإمكان ، ومن عيوبها تري أنها كانت خايبة لأنها لم تعرف قيمة نفسها إطلاقاً .
أكد أن سُعاد تزوجت عبد الحليم عرفياً حتى يحافظ العندليب على معجبيه ، لكن هذا الأمر أغضبها كثيراً رغم موافقتها علي طريقة الزواج .
وأوصت الطبيب بكتابةِ مذكراتها في كتابٍ عن أسرارها وهو ما حدث بالفعل ، وأن يزور قَبرهَا في كل مرةٍ يأتي فيها إلى مصر ، وهو الأمرُ الذي يلتزم به بشكلٍ مستمر ، اما الوصيةُ الأخيرةُ عدم نشرِ أي صور تخص الفترة التي قضتها في لندن حفاظاً على صورتها التي رسمها لها الجمهور ، وهو ما التزم به أيضا وأكد أن السندريلا كانت تنوي العودةَ الى مصر في أغسطس من نفس عام وفاتها وتلقت عدةَ عروضٍ سينمائيةٍ اختارت منها فيلماً كانت ستقوم ببطولته أمام النجم العالمي عمر الشريف ، لكن بطش من أرادَ عدم استمرار حياتها في الدنيا كان نافذاً بعد أن عزمت على كتابةِ مُذكراتِها وفضح كل من تخلى عنها في رحلتِها العلاجية . وتم إلقاءُ السندريلا من شرفةِ شقةِ صديقتها بلندن ، لتلقى مَصرعَها في الحال ، لكن عدالة الله فوقَ ظلمِ وإرهابِ العباد .
رغم آلامِها وأحزانِها ووحدتِها وأوجاعِها ظلت جميلةً تشرقُ الشمسُ إذا ابتسمت ، ويطلُ القمرُ إذا ضحكت ، تتحدثُ عيونها بلا كلماتٍ ، فتحكي عن جمالِ الدنيا وعشقِ الحياة ، لوعةِ الحبِ وآلامِ الفراق ، بهجةِ الربيعِ وحيويةِ كل النساء ، وفي نفسِ الوقت تحملُ غموضَ الكونِ وأسرارِ النهايات ، التي تموتُ مع أصحابِها وتعجزُ العقولُ عن إدراكِها وما يحيطُ بها من أسباب .
إنها السندريلاُ يا سادة .. التي مَنحتها الدنيا جمالاً أخاذاً ، لكن قسوتها كانت أشد ، ليكونَ الترابُ الذي خلقنا منه أَحَنَ عليها من غدرِ الزمان ، يحملُها إلى عالمِ الخلودِ بلا حقدٍ وأوجاع .
في عالمِ الخلودِ حتماً سنلتقي دون حواجزِ الدنيا التي كانت تمنعنا عن لقاءِ الأحبة .
رحمةُ اللهِ على من قَدَمَ لنا المتعة والبسمة وأضفى بجمالِ رُوحِه حباً لن ينضب أبداً مهما مر عليه الزمان .