وداع الخليفة.. ما وصية أبى بكر الصديق قبل رحيله؟
لا يختلف أحد على قيمة وأهمية الخليفة أبو بكر الصديق فى التاريخ الإسلامي، فهو الصديق الأقرب لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وقد تولى الأمر من بعده، ويوم رحيله لم يكن باليوم السهل على المسلمين، ومع ذلك فقد كان مشغولا فى ذلك اليوم بمستقبل المسلمين وبحياتهم، فكيف كانت وصيته؟
يقول كتاب “الصديق أبو بكر” لمحمد حسين هيكل:
الرواية الراجحة فى مرض أبى بكر ووفاته تسند إلى ابنته أم المؤمنين عائشة وإلى ابنه عبد الرحمن، قالا: كان أول ما بدأ مرض أبى بكر أنه اغتسل فى يوم بارد فحمَّ خمسة عشر يومًا لا يخرج إلى الصلاة؛ وكان يأمر عمر بن الخطاب أن يصلى بالناس.
على أن أبا بكر لم يفتأ فى الأسبوعين اللذين قضاهما فى مرضه إلى وفاته دائم التفكير فى شئون المسلمين، دائم الحساب لنفسه عما قدم منذ تولى أمرهم، فقد كان قوى الشعور منذ مرض بأن أجله جاء، وأنه ملاق ربه، وقد كان مغتبطًا لذلك مطمئنًّا له؛ لأنه كان فى السن التى اختار فيها رسول الله الرفيق الأعلى، ولأنه كان يشعر بأنه أدى لله حقه، قيل له يومًا: لو أرسلت إلى الطبيب! فكان جوابه: قد رآني. قيل: فما قال لك؟ قال: إنى أفعل ما أشاء. يشير إلى أنه وكل الأمر لله، وأنه سعيد بقضاء الله، وأن أكبر همه أن يضمه الله إليه.
وأكثر ما شغل به أبو بكر أثناء مرضه إشفاقه من مصير المسلمين بعده، لقد ذكر اختلاف المهاجرين والأنصار بسقيفة بنى ساعدة حين مات النبي، وذكر ما كان يوشك أن يحدث بين القوم لولا أن جمع الله كلمتهم على بيعته، ولئن اختلفوا حين وفاته ليكونن اختلافهم أجسم خطرًا، فلم يبقَ الأمر دائرًا بين المهاجرين والأنصار دون سائر العرب، بل لقد جاهد العرب جميعًا ولا يزالون يجاهدون فى العراق والشام، يواجهون فارس والروم، فإذا قبض واختلفوا لم يقف خلافهم فى حدود سقيفة بنى ساعدة، بل يتخطاها إلى مكة والطائف، وقد ينتقل إلى اليمن، وعند ذلك تعود الثورة تتلظى فى بلاد العرب، وهى إن عادت لم يكن مدارها ركنًا من أركان الدين، بل السلطان وولاية الأمر. واختلاف الناس على أمور الدنيا أشد إثارة للشر وإطارة لنار الفتنة، وما أجسم الخطر من ذلك على الإسلام والمسلمين فى وقت يواجهون فيه الأسدين فارس والروم! فكيف يتلافى أبو بكر هذا الخطر، وكيف يجنب المسلمين ما ينشأ عن الفتنة من شر مستطير؟
فكر فى هذا أثناء مرضه وطال فيه تفكيره، وألهمه الله الرأى وعزم له فلم يتردد، لا سبيل إلى ملافاة ما يشفق منه إلا أن يستخلف من يقوم بالأمر من بعده، وأن يجمع كلمة المسلمين عليه، هذا أمر لم يصنعه رسول الله؛ فقد قبض ولم يستخلف، لكن ذلك كانت فيه لله حكمة، وحكمته ألا يظن الناس أن من استخلفه رسول الله قد استمد الأمر على المسلمين من عند الله، فأصبح خليفة الله، وقد أراد الله من فضله أن يجمع كلمة المسلمين من بعد على أبى بكر وأن يهيئ له من التوفيق ما رأيت، فأما إن استخلف أبو بكر فإنما يستخلف برأيه، وبإرادة المسلمين، ولن يكون لخليفته على المسلمين إلا ما كان لأبى بكر، ولن تكون حكومته إلا كما كانت حكومة أبى بكر.
من ذا تراه يستخلف؟ لقد عجم عيدان من حوله من أولى الرأى جميعًا فى عهد النبي، ولقد عجم عيدانهم مدة خلافته، وهو اليوم أشد ثقة بأن عمر بن الخطاب خير من يخلفه، لكنه إن فرض ذلك على المسلمين فقد يثقل أمره عليهم، وقد يبرمون به، لذلك دعا عبد الرحمن بن عوف وقال له: أخبرنى عن عمر بن الخطاب. قال عبد الرحمن: ما تسألنى عن أمر إلا وأنت أعلمنا به. قال أبو بكر: وإن. قال عبد الرحمن: يا خليفة رسول الله، هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل، ولكن فيه غلظة. قال أبو بكر: ذلك لأنه يرانى رقيقًا، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرًا مما هو عليه، ويا أبا محمد، قد رمقته فرأيته إذا غضبت على الرجل فى الشيء أرانى الرضا عنه، وإذا لنت له أرانى الشدة عليه. وسكت هنية ثم قال: لا تذكر يا أبا محمد مما قلت لك شيئًا.
ودعا الصديق عثمان بن عفان بعد عبد الرحمن بن عوف، وقال له: يا أبا عبد الله، أخبرنى عن عمر. قال عثمان: أنت أخبر به. فقال: على ذلك يا أبا عبد الله! قال عثمان: اللهم علمى به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله. قال أبو بكر: يرحمك الله يا أبا عبد الله! والله لو تركتُه ما عدوتك! لا تذكرن مما قلت لك ولا مما دعوتك له شيئًا.
ولم يكتفِ أبو بكر بمشاورة عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، بل شاور كذلك سعيد بن زيد وأسيد بن حضير وغيرهما من المهاجرين والأنصار، وسمع بعض أصحاب النبى بمشاورات أبى بكر وأنه يريد استخلاف عمر، فأشفقوا من شدة ابن الخطاب وغلظته أن يفرق ذلك كلمة المسلمين، فاجتمع رأيهم على أن يهيبوا بأبى بكر ليرجع عن عزمه، واستأذنوا فدخلوا عليه، فقال طلحة بن عبيد الله: “ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، فكيف به إذا خلا بهم بعد لقائك ربك؟!” هنالك غضب أبو بكر وصاح بقوة والمرض يهزه: أجلسوني! فلما أجلسوه وجه الحديث إلى القوم الذين دخلوا عليه فقال: “أبالله تخوفونني! خاب من تزود من أمركم بظلم! أقول: اللهم استخلفت على أهلك خير أهلك” ثم اتجه إلى طلحة فقال له: “أبلغ عنى ما قلت لك من وراءك”.
واضطجع أبو بكر وقد هده هذا الحوار، فانصرف عنه القوم لم يبقَ منهم إلا عبد الرحمن بن عوف، وقيل: بل خرج عبد الرحمن معهم ثم عاد إليه صبح اليوم التالي، وقال يحييه وقد جلس إلى جانب سريره: “أصبحت والحمد لله بارئًا” قال أبو بكر: “أتراه؟” قال: “نعم!” فسكت أبو بكر وسكت عبد الرحمن هنيهة ثم تحدث الصديق وكأنما عنَّاه ما حدث بالأمس: “إنى ولَّيتُ أمركم خيركم فى نفسي، فكلكم ورم أنفه من ذلك يريد أن يكون الأمر له دونه” واستطرد فى حديث أحس معه عبد الرحمن بما يغص نفس الخليفة من ألم لحديث القوم، فقال له: “خفض عليك رحمك الله! فإن هذا يهيضك، إنما الناس فى أمرك بين رجلين؛ إما رجل رأى ما رأيت فهو معك، وإما رجل خالفك فهو مشير عليك، وصاحبك كما تحب، ولا نعلمك أردت إلا خيرًا، ولم تزل صالحًا مصلحًا.”
واطمأن أبو بكر إلى استخلاف عمر، فدعا عثمان بن عفان، وكان يكتب له فقال له: اكتب، وأملاه: “بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبى قحافة فى آخر عهده بالدنيا خارجًا منها وعند أول عهده بالآخرة داخلًا فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إنى استخلفت عليكم بعدى عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، وإنى لم آل الله ورسوله ودينه ونفسى وإياكم خيرًا، فإن عدل فذلك ظنى به وعلمى فيه، وإن بدَّل فلكل امرئ ما اكتسب من الإثم، والخير أردت، ولا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون، والسلام عليكم ورحمة الله” ثم ختم الكتاب.