فتنة خلق القرآن 218 هجرية .. ما يقوله التراث الإسلامى
واحدة من أشهر الفتن فى التراث الإسلامى، هى فتنة خلق القرآن، التي أطلقها الخليفة المأمون فى نهاية أيامه، حيث اختبر الفقهاء والعلماء فى هذه المسألة، فما الذي يقوله التراث الإسلامى؟
يقول كتاب البداية والنهاية لـ الحافظ بن كثير تحت عنوان “ثم دخلت سنة ثمان عشرة ومائتين”
في أول يوم من جمادى الأولى: وجه المأمون ابنه العباس إلى بلاد الروم لبناء الطونة وتجديد عمارتها.
وبعث إلى سائر الأقاليم في تجهيز الفعلة من كل بلد إليها، من مصر والشام والعراق، فاجتمع عليها خلق كثير، وأمره أن يجعلها ميلا في ميل، وأن يجعل سورها ثلاث فراسخ، وأن يجعل لها ثلاثة أبواب.
ويقول الكتاب “ذكر أول المحنة والفتنة”
في هذه السنة: كتب المأمون إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يمتحن القضاة والمحدثين بالقول بخلق القرآن، وأن يرسل إليه جماعة منهم، وكتب إليه يستحثه في كتاب مطول، وكتب غيره قد سردها ابن جرير كلها.
ومضمونها الاحتجاج على أن القرآن محدث وكل محدث مخلوق، وهذا احتجاج لا يوافقه عليه كثير من المتكلمين فضلا عن المحدثين، فإن القائلين بأن الله تعالى تقوم به الأفعال الاختيارية لا يقولون بأن فعله تعالى القائم بذاته المقدسة مخلوق، بل لم يكن مخلوقا، بل يقولون هو محدث وليس بمخلوق، بل هو كلام الله القائم بذاته المقدسة، وما كان قائما بذاته لا يكون مخلوقا.
وقد قال الله تعالى: { يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } [الأنبياء: 2.
وقال تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ } [الأعراف: 11] .
فالأمر بالسجود صدر منه بعد خلق آدم، فالكلام القائم بالذات ليس مخلوقا، وهذا له موضع آخر.
وقد صنف البخاري كتابا في هذا المعنى سماه: خلق أفعال العباد.
والمقصود أن كتاب المأمون لما ورد بغداد قرئ على الناس، وقد عين المأمون جماعة من المحدثين ليحضرهم إليه، وهم: محمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلم المستملي، ويزيد بن هارون، ويحيى بن معين، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن الدورقي.
فبعث بهم إلى المأمون إلى الرقة فامتحنهم بخلق القرآن فأجابوه إلى ذلك وأظهروا موافقته وهم كارهون، فردهم إلى بغداد وأمر بإشهار أمرهم بين الفقهاء، ففعل إسحاق ذلك.
وأحضر خلقا من مشايخ الحديث والفقهاء وأئمة المساجد وغيرهم، فدعاهم إلى ذلك عن أمر المأمون، وذكر لهم موافقة أولئك المحدثين له على ذلك، فأجابوا بمثل جواب أولئك موافقة لهم، ووقعت بين الناس فتنة عظيمة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم كتب المأمون إلى إسحاق أيضا بكتاب ثان يستدل به على القول بخلق القرآن بشبه من الدلائل أيضا لا تحقيق تحتها ولا حاصل لها، بل هي من المتشابه وأورد من القرآن آيات هي حجة عليه.
أورد ابن جرير ذلك كله.
وأمر نائبه أن يقرأ ذلك على الناس وأن يدعوهم إليه وإلى القول بخلق القرآن.
فأحضر أبو إسحاق جماعة من الأئمة وهم: أحمد بن حنبل، وقتيبة، وأبو حيان الزيادي، وبشر بن الوليد الكندي، وعلي بن أبي مقاتل، وسعدويه الواسطي، وعلي بن الجعد، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وابن الهرش، وابن علية الأكبر، ويحيى بن عبد الحميد العمري.
وشيخ آخر من سلالة عمر كان قاضيا على الرقة، وأبو نصر التمار، وأبو معمر القطيعي، ومحمد بن حاتم بن ميمون، ومحمد بن نوح الجنديسابوري المضروب، وابن الفرخان، والنضر بن شميل، وأبو علي بن عاصم، وأبو العوام البارد، وأبو شجاع، وعبد الرحمن بن إسحاق، وجماعة.
فلما دخلوا على أبي إسحاق قرأ عليهم كتاب المأمون، فلما فهموه قال لبشر بن الوليد: ما تقول في القرآن؟
فقال: هو كلام الله.
قال: ليس عن هذا أسألك، وإنما أسألك أهو مخلوق؟
قال: ليس بخالق.
قال: ولا عن هذا أسألك.
فقال: ما أحسن غير هذا. وصمم على ذلك.
فقال: تشهد أن لا إله إلا الله أحدا فردا لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه؟
قال: نعم !
فقال للكاتب: اكتب بما قال. فكتب.
ثم امتحنهم رجلا رجلا فأكثرهم امتنع من القول بخلق القرآن، فكان إذا امتنع الرجل منهم امتحنه بالرقعة التي وافق عليها بشر بن الوليد الكندي، من أنه يقال: لا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه؟
فيقول: نعم ! كما قال بشر.
ولما انتهت النوبة إلى امتحان أحمد بن حنبل فقال له: أتقول إن القرآن مخلوق؟
فقال: القرآن كلام الله لا أزيد على هذا.
فقال له: ما تقول في هذه الرقعة؟
فقال: أقول: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى: 11] .
فقال رجل من المعتزلة: إنه يقول سميع بإذن بصير بعين.
فقال له إسحاق: ما أردت بقولك سميع بصير؟
فقال: أردت منها ما أراده الله منها، وهو كما وصف نفسه ولا أزيد على ذلك.
فكتب جوابات القوم رجلا رجلا وبعث بها إلى المأمون.
وكان من الحاضرين من أجاب إلى القول بخلق القرآن مصانعةً مكرها لأنهم كانوا يعزلون من لا يجيب عن وظائفه، وإن كان له رزق على بيت المال قطع، وإن كان مفتيا منع من الإفتاء، وإن كان شيخ حديث ردع عن الإسماع والأداء.
ووقعت فتنة صماء ومحنة شنعاء وداهية دهياء، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
فلما وصلت جوابات القوم إلى المأمون بعث إلى نائبه يمدحه على ذلك ويرد على كل فرد فرد ما قال في كتاب أرسله.
وأمر نائبه أن يمتحنهم أيضا فمن أجاب منهم شهر أمره في الناس، ومن لم يجب منهم فابعثه إلى عسكر أمير المؤمنين مقيدا محتفظا به حتى يصل إلى أمير المؤمنين فيرى فيه رأيه، ومن رأيه أن يضرب عنق من لم يقل بقوله.
فعند ذلك عقد النائب ببغداد مجلسا آخر وأحضر أولئك وفيهم إبراهيم بن المهدي، وكان صاحبا لبشر بن الوليد الكندي، وقد نص المأمون على قتلهما إن لم يجيبا على الفور، فلما امتحنهم إسحاق أجابوا كلهم مكرهين متأولين قوله تعالى: { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } [النحل: 106] الآية.
إلا أربعة وهم: أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، والحسن بن حماد سجاده، وعبيد الله بن عمر القواريري.
فقيَّدهم وأرصدهم ليبعث بهم إلى المأمون، ثم استدعى بهم في اليوم الثاني فامتحنهم فأجاب سجاده إلى القول بذلك فأطلق.
ثم امتحنهم في اليوم الثالث فأجاب القواريري إلى ذلك فأطلق قيده.
وأخرَّ أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح الجنديسابوري لأنهما أصرا على الامتناع من القول بذلك، فأكد قيودهما وجمعهما في الحديد وبعث بهما إلى الخليفة وهو بطرسوس، وكتب كتابا بإرسالهما إليه.
فسارا مقيدين في محارة على جمل متعادلين رضي الله عنهما.
وجعل الإمام أحمد يدعو الله عز وجل أن لا يجمع بينهما وبين المأمون، وأن لا يرياه ولا يراهما.
ثم جاء كتاب المأمون إلى نائبه أنه قد بلغني أن القوم إنما أجابوا مكرهين متأولين قوله تعالى: «إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان» [النحل: 106] الآية.
وقد أخطأوا في تأويلهم ذلك خطأً كبيرا، فأرسلهم كلهم إلى أمير المؤمنين.
فاستدعاهم إسحاق وألزمهم بالمسير إلى طرسوس فساروا إليها، فلما كانوا ببعض الطريق بلغهم موت المأمون فردوا إلى الرقة، ثم أذن لهم بالرجوع إلى بغداد.
وكان أحمد بن حنبل وابن نوح قد سبقا الناس، ولكن لم يجتمعا به.
بل أهلكه الله قبل وصولهما إليه، واستجاب الله سبحانه دعاء عبده ووليه الإمام أحمد بن حنبل، فلم يريا المأمون ولا رآهما، بل ردوا إلى بغداد.
وسيأتي تمام ما وقع لهم من الأمر الفظيع في أول ولاية المعتصم بن الرشيد، وتمام باقي الكلام على ذلك في ترجمة الإمام أحمد عند ذكر وفاته في سنة إحدى وأربعين ومائتين، وبالله المستعان.