الصال
قصة قصيرة بقلم د.عماد عبد الرؤوف الرطيل
مع إنتصاف الليل بدأت جلسة السمر فى الأنفضاض والتى اعتدنا على عقدها أنا وأصدقائى من شباب القرية على الضفة الشرقية لترعة الإسماعيلية طوال ليال الصيف الحارة، ودائماً ما كانت تتجه أنظارنا إلى الضفة الغربية بين الأمل والرجاء بأن يكون عبورنا صباحاً سهلاً ميسوراً بواسطة وسيلتنا الوحيدة التى تربط بين الضفتين وهو ما نطلق عليه أسم “الصال” والرابض أمامنا على الضفة الغربية لترعة الإسماعيلية، تلك الترعة التى تسير بمحاذاة سكة المعاهدة التى تربط محافظتى الإسماعيلية والشرقية، والتى ارتبط حفرها بحفر قناة السويس لسقاية العمال الذين جادوا بأرواحهم وضربوا بسواعدهم الأرض ليشقوا لنا أعظم ممر مائى فى التاريخ.
ومن الفوائد العظيمة للترعة أنها كانت السبب فى نشأة قريتنا وقرى كثيرة مجاورة على الضفة الشرقية لها، حيث ساعدت وفرة المياه على استقرار اباءنا وأجدادنا فى تلك الأراضى حيث عمروها وأصبحت مسقط رأسنا ومرتع ألعابنا ومحط ذكريات طفولتنا وصبانا. وإذا كانت الضفة الشرقية تمثل لنا ولغيرنا طيب المقام ومصدر الرزق والعيش فى وئام، فإن الضفة الغربية تمثل لنا القلب الذى تمتد شراينه لكافة شئون الحياة من مرافق حيوية ومصالح حكومية ترتبط بها شئون دنيانا ومقدرات حياتنا، كما تضم المراحل المتقدمة من التعليم كالاعدادى والثانوى ومعاهد وكليات العلوم المختلفة وتضم البنوك والمتاجر الكبيرة ودور الترفيه وغيرها من وسائل العيش المتحضرة.
أما عن الصال فهو عبارة عن مسطح خشبى يميل إلى الإستطالة مثبت على ما يشبه البرميل أو الفنطاس الأجوف حتى يطفو على سطح الماء وله سور حديدى كأمان لعدم وقوع المستقلين له فى الماء، وتمتد سلسة حديدية فولاذية فيما بين الضفتين يتم جذبها من مستخدمى الصال عكس الضفة التى استقلوه منها ليصل بهم إلى الوجهة التى يريدونها. وكثيراً ما كان يعانى أهل قريتى من هذه الوسيلة التى كانت مرهونة بمن يدفعها لكى ينتقل من ضفة إلى أخرى وكم كان عدد المشاكل والوقت المهدر التى وقعت لعدم إنتظام خط السير الملاحى للصال بين الضفتين.
وذات يوم بينما كان عدد من أبناء القرية يتأهبون للعبور للضفة الغربية لقضاء مصالحهم وإذا بالصال قابع على تلك الضفة بلا حراك ولا يوجد أمل فى زائر أو مسؤل أو أحد أبناء القرية عائداً إلى أهله، ولكن بعد مدة لوحظ أحد الأشخاص يستند إلى حافة الصال كأنه يبجث عن شئ ما، وإذا بالجميع بالضفة الشرقية يتأهب ظنأ منهم أنه يستعد لإعتلاء الصال ولكن سرعان ما تبدد هذا الأمل، تلك الهبة لفتت أنظار ذلك الشخص فتوقف ونظر إليهم وتبادل معهم الإشارات، فأشاروا له على الصال ولكنه لم يفهم فتعالت صيحاتهم بأن يعتلى الصال فلما فعل خاطبهم قائلأً “وماذا بعد” فطالبوه بجذب السلسلة حتى يتحرك الصال ففعل، وإذا بتلك الكومة من الحديد تتحرك شيئاً فشيئاً وبدأت تتهادى حتى وصلت الضفة الشرقية وفرح الجميع وأقبلوا على ذلك الشاب يصافحونه ويشدون على يده، وزادت سعادتهم عندما علموا أنه قد فعل ذلك دون أن تكون له مصلحة أو أقرباء فى القرية وفهموا منه أنه جاء إلى المنطقة مصادفة فرحبوا به ثانياً وشكروه على جميل صنعه وسألوه عن أسمه فقال لهم “محسبكوا بسيونى”.
ولم يغب على بسيونى سؤاله لأهل القرية قائلاً “يعنى إن لم اكن متواجداً فى ذلك الوقت فكيف كان عبوركم للضفة الأخرى”، فأجابوا أنهم سوف ينتظرون إلى أن يأتى الفرج من عند الله بهذه العبارة لتنقلهم إلى الضفة الغربية. ففغر بسيونى فاه متعجباً ولم يعلق ثم طرأت على ذهنه فكرة حيث أنه لا يعمل وليس له مورد رزق فسألهم إذا كانوا يريدون معداوى يعمل على وجود خط ملاحى منتظم بين الضفتين مقابل أجر بسيط ويرفع عنهم عناء وهم الانتقال بين الضفتين. ووقع هذا الإقتراح كالصاعقة على أهل القرية وكأنهم لأول مرة يسمعون لفظ “معداوى” وكان الرد أنهم سينقلون هذا الإقتراح إلى كبار أهل القرية على أن يكون القرار سريعاً. وجاء الرد حاسماً ولأول مرة يتفق أهل القرية على قرار فيه مصلحة الجميع، ودارت مناقشات عديدة حول المقابل المادى الذى سيتقاضاه ربان الصال ومكان إقامته، كذلك حالة الصال التى يرثى لها وكيفية إصلاحه وترميمه. وكانت المفاوضات سهلة لينة فقد أبدى بسيونى مرونة هائلة سواء من ناحية المقابل المادى ومكان الإقامة حيث قبل بمبلغ 100 جنيهاُ شهرياً مع توفير المأكل من خيرات القرية، أما عن الإقامة فقد أبدى رغبته فى النوم على سطح الصال صيفاً مع توفير مرتبة ووسادة، أما فى الشتاء فسوف يأوى إلى المصلاة المقامة على شاطئ الترعة مع توفير أغطية مناسبة.
وبعد أن تم الأتفاق فى دوار العمدة وتعالت صيحات الحمد والثناء والشكر وتسابق أهل القرية فى تحية المعداوى الذى يعد المنقذ من عناء التفكير فى كيفية الوصول من وإلى ضفتى الترعة. ولأول مرة يشعر أهل القرية بالراحة والطمأنينة، وسارت الأمور سيرها الطبيعى وأصبح الخط الملاحى الرابط بين الضفتين أهم إنجاز لأهل القرية فى تاريخهم المعاصر والذى حقق لهم التواصل المستمر ودون توقف بالضفة الغربية التى بها تقضى مصالحهم وأرزاقهم وغاية الطموح لشبابهم وتحقيق آمالهم. ومن جانبه قام بسيونى ربان الصال بعمله على أكمل وجه وبات حديث أهل القرية الذين جادوا بكل ما هو طيب ومفيد لهذا الشاب الشهم.
وبمرور الأيام بدت ظواهر وسمات النعمة تظهر على بسيونى من تناوله من خيرات الريف من لحوم ودواجن وفاكهة وخضروات طازجة حتى زاد وزنه وأنتفخت أوداجه وتورم جسده لحماً وشحماً. ويبدو أن دوام الحال من المحال فقد بدأت أحوال بسيونى بالتغير وتظهر شخصية بعض أهل المدن السلبية تبدو جلية فكان يثور لأتفه الأسباب ويفتعل الأزمات مع أبناء القرية حتى أصبح مزعجاً لدرجة حيرت أهل القرية الذين تسائلوا عن سبب هذ التغير، ولما سألوه أخبرهم أن العمل أصبح أكثر من الأول وأن أهل القرية يتعمدون استخدام الصال أكثر من مرة فى اليوم بعد أن كانوا يستقلونه للأمور الضرورية وهو محق فى هذا ولكن بوادر الأخلاق السيئة ما هو تفسيرها، ومع مناقشته تبين أنه يريد زيادة فى “الأجر” وأن يمنع عبور الشخص أكثر من مرة فى اليوم إلا فى حالة الضرورة.
وحاول أهل القرية إثناؤه عن ما إتخذ من قرارات إلا أنه رفض بوقاحة. وعندما وازن أهل القرية بين مطالبه وبين ما حصلوا عليه من راحة وطمأنينة بوجود هذا الخط الملاحى المنتظم، قرروا الموافقه على مضض لكن سرعان ما أطلت الإنتهازية والخسة التى كانت من سمات شخصية بسيونى برأسها من جديد وأستغل حدثاً مهماً ينتقل فيه أغلب أهل القرية إلى الضفة الغربية وقام بعمل جنوح للصال وأوقفه فى وسط المجرى الملاحى. وعندما أتت الجموع للعبور فوجئوا بهذا الموقف الغريب، ولما سألوه يا ترى ما هى المطالب هذه المرة فكانت الإجابة فى منتهى القسوة وبدى أنه يثنى ويلى ذراع أهل القرية. وأتفق الجميع على مجاراته حتى ينتهوا من هذا الحدث ثم يكون لهم معه شأن آخر. ولما عاد أهل القرية اجتمعوا صباح اليوم التالى وأتفقوا إلى رأى مفاده أن هذا البسيونى لن ينصلح حاله وأنهم لن يرضخوا لمطالبه بعد الآن. وتوصلوا إلى أن الحل الأمثل الوحيد هو مخاطبة المسؤلين لعمل كوبرى يربط الضفتين بصورة نهائية. وذهب وفد من أهل القرية وقدموا طلباً لتشييد كوبرى يخدم أهل القرية والقرى المجاورة، وبعد الكثير من المداولات وإستيفاء الأوراق تمت الموافقة على إقامة الكوبرى.
وبدأ التنفيذ فعلاً والغريب أن العمل قائم على قدم وساق ولكن بسيونى لم يعر الأمر أى أهمية وأصبح من فرط بدانته يتحرك بصعوبة وخيم الغباء على عقله واعمى بصيرته. وتم تشييد الكوبرى وسط فرحة الأهالى الذين استقبلوا المسؤلين الذين حضروا لقص شريط افتتاحه، وهنا اندفع بعض شباب القرية يرجون من الحفل الكريم التوقف قليلاً وتوجهوا حيث يرقد بسيونى وعلى طريقة تدشين السفن حملوا بسيونى لحظة قص الشريط وألقوا به فى الترعة ليعبرها سابحاً لأول مرة بعد عزله من قيادة الصال. وتعالت الهتافات والصيحات وهمهم أحد شباب القرية قائلاً “يعنى يا بلد كل قرار لخدمة الناس لازم يكون وراه بسيونى”.
وأحيل الصال إلى التقاعد بعد أن أدى مهمته لسنوات عديدة وأصبح رابضاً على إحدى الضفتين كأثر لأحد مخترعات الأنسان لعبور المواقع المائية عبر الأزمان.
مع تحياتي
دكتور عماد عبد الرؤوف