من ذكريات 5 يونيو
مهندس فايق الخليلي
لا انسي ذلك يوم الاثنين الخامس من يونيو عام 1967 حيث كنت تلميذا في مدرسة المواساه الاعداديه باسوان واختي الوحيده أيضا في الصف الثالث الاعدادي وكان هذا اليوم هو آخر يوم في امتحانات الشهاده الاعداديه وأتذكر أنه كان امتحان مادة الجبر وكنا في اسوان حيث أن البلد الذي يعمل فيها والدي الذي كان ضابطا بالقوات المسلحه وهي مدينة جبل الطور والتي تسمي الآن طور سيناء لم يكن بها مدرسه اعداديه فأرسلنا والدي رحمة الله عليه عند اخي المهندس فوزي الذي يعمل بالسد العالي آنذاك وهو أحد بناته والحاصل علي عدة أنواط من رؤساء الجمهوريه عبدالناصر والسادات وحسني مبارك وكان اخي الدكتور فايز والذي كان طالبا في جامعة أسيوط قد اتي الي اسوان وكان المخطط في صبيحة هذا اليوم المشئوم أن ننزل الي المدينه ونحضر اختي بعد انتهاء الامتحان ونقضي باقي اليوم في نادي التجديف علي نيل اسوان الساحر . وفي هذه الأثناء وبينما نحن نتجهز للخروج وكانت الساعة في حدود التاسعه صباحا إذا بصوت المذيع احمد سعيد في الراديو وهو من كبار مذيعي الاذاعه المصريه حينئذ يقول لقد وقعت إسرائيل في الفخ وتلا البيان الاول باعتداء القوات الاسرائيليه علي سيناء واننا قد اسقطنا في أول ساعه ثلاثه وعشرون طائره ثم توالت البيانات العسكريه فما كان من اخي الدكتور أن قال شكل الحرب قامت واستعجلنا أنا وزوجة اخي رحمها الله بالخروج للحاق باختي لانه من المؤكد ان الامتحان سيلغي ويبقي التلاميذ في الشارع مع حالة الهلع التي أصابت الناس وفعلا ذهبنا الي المدرسه ووجدنا مافكرنا فيه هو مافكر فيه الآخرين وفعلا اخذناها وتوجهنا مباشره الي مركز التدريب التابع للسد العالي الذي كان اخي مديرا فيه للاطمئنان عليه وفئ هذه الأثناء كان الناس غير مصدقين مايحدث وهل الحرب بدأت بالفعل وكانت الحيره التي يشوبها الخوف والهلع هي المسيطرة على الناس . وماان وصلنا الي مركز التدريب حتي وجدنا جميع العمال والعاملين الكل ترك عمله ويستمعون الي بيانات الحرب من خلال الاذاعه الداخليه بالمركز ولاتغيب عن ذاكرتي ابدا حالة الحماس المنقطع النظير في ذلك اليوم والكم الهائل من الشعور بالوطنية الجارفه والدعوات بالنصر والعمل مزيدا من الوقت بل والمطالبة بالتطوع في صفوف الجيش . وتوالت بيانات الانتصار وإسقاط المئات من طائرات العدو ومكثنا عنده عدة ساعات بعدها أعلن اخي في الميكروفون بأن علي الجميع العوده الي اعمالهم لأن اليوم هو وقت المزيد من العمل في هذه الظروف التي تمر بها البلاد وقد استجاب البعض والبعض الآخر لم يستجب لأن الحدث بالفعل كان كبيرا ولم تستوعبه الناس بعد . وقد طلب منا اخي أن نذهب الي المنزل لانه لايعلم متي سيعود وبالفعل عدنا الي المنزل وجلسنا أمام التليفزيون وكانت فقط القناه الأولي والثانيه بالاضافه الي الراديو بالطبع .وتوالت البيانات وفي ثاني أو ثالث ايام الحرب لاحظت من احاديث اخوتي لهجه من عدم الاقتناع عما يذاع في الاذاعه المصريه وان مايذاع في الإذاعات الاجنبيه وأشهرها إذاعة لندن ال BBC بأن الأمور ليست كما يذاع وان إسرائيل قد احتلت سيناء وأن القتال يدور من منزل الي منزل في شوارع العريش . وقد حجب اخوتي عنا هذه المعلومات وعن زوجة أخي لأن اهلنا كانوا في الطور واهلها في العريش وأخي الكبير الموظف بتعمير الصحاري بالاسماعيليه ومتطوع في قوات الحرس الوطني شبه العسكريه لحماية المدن من الاحتلال يعني ذلك أن العائلتين في اتون الحرب نفسها مع فقدان الأمل في وجودهم احياء وكان الموقف صعبا والتوتر واضح علي وجوه اخوتي ماذا يفعلون وماذا يقولون وكيف يخبروننا بذلك . وبينما كنت انا واختي نتهيأ للنوم إذ سمعت اخي يقول للاخر العريش احتلت والطور احتلت ولم يبق من العائله الا نحن وهذان الطفلان سنتكفل بهم ونربيهم ونحن ماتبقي من العائله بالاضافه الي اخي فهمي الذي كان في جامعة أسيوط أيضا . وكنت صغيرا وماان سمعت ذلك حتي اجهشيت بالبكاء وقمت أسأله احنا مش حنشوف بابا وماما واخواتي تاني هما ماتوا خلاص فما كان من اخوتي الا أن اجهشوا جميعا بالبكاء واخذونا في احضانهم وأخذوا يطمئنونا بأننا سنراهم ان شاء الله ولكن ماقالوه وسمعته جعلني لااصدقهم وظللنا نبكي وتردد بابا ماما عايز اشوف اخواتي…. الي هنا تم احتلال سيناء بالكامل ومازال قول اخي بأن عائلتنا انحصرت فيما تبقي منهاحيث أن العائله كانت موزعه علي عدة بلدان والدي الضابط وأمي وأخواي الاصغر وخالتي التي عاشت في كنفنا منذ طفولتها كانوا في مدينة الطور التي احتلت ولانعرف مصيرهم وأخي الأكبر احمد الشهير بفؤاد في الاسماعيليه في الحرس الوطني ولانعرف مصيره أيضا وأخوتي الاثنين في جامعة أسيوط وهؤلاء في مأمن وعلي اتصال بنا وانا واختي مع اخي المهندس وزوجته في اسوان حينئذ قال اخي الدكتور أنه ذاهب ليبحث عن اهله ووالده ثم يتطوع بعدها في الجيش وكان هذا هو الشعور السائد بين الشباب وقتها وبعد ذلك بعدة أيام أعلن الرئيس جمال عبد الناصر تنحيه عن الحكم وكنت جالسا مع اخي المهندس فوزي نستمع للخطاب فما كان منه الا وقد اجهش بالبكاء وقال بطريقه هستيرية لا لا حتسيبنا لمين ياجمال حتسيبنا لمين ياجمال ووضع رأسه بين كفيه واجهش بالبكاء الشديد مرددا لا لا حتسيبنا لمين احنا لازم نحارب تاني وانا مندهشا مما اسمعه واراه الهذا الحد كان الناس يحبون بلدهم ولايرضون بهزيمته وهذا الموقف من المواقف التي شكلت وجداني الوطني وحب بلدي واورثته لاولادي وماهي الا دقائق حتي كانت الشوارع مكتظة بالناس بطريقه تلقائيه وهتاف واحد جمعهم حنحارب حنحارب ونزلنا جميعا ونحن نردد حنحارب حنحارب وفتح التليفزيون قناتيه في بث مباشر لهذه المظاهرات التي عمت جميع أرجاء البلاد رافضه للهزيمه وإصرار كامل علي مواصلة الحرب حتي استرداد الأرض . وأصبحت مدينة أسيوط هي المدينه التي سكنا فيها حتي نهاية حياتنا الجامعيه إلي أن جاءت حرب اكتوبر 73 التي أعادت لمصر والعرب امجادهم وكرامتهم
وهذه هي مصر التي يشتد عودها بعد كل كبوه
حفظ الله مصر من كل سوء