رسالة شاب يابانى إلى مخرج “أوبنهايمر”
إلى مخرجي المفضل كريستوفر نولان، تحية طيبة وبعد..
لا أخفيك أنني شديد الإعجاب بك، وبأعمالك، ومضمونها وفلسفتها، وقدرتك على دمج العلوم بالألاعيب السينمائية السحرية، وبحثك المستمر عن الصراع بين الخير والشر، وخفتك فى التنقل بين العوالم المختلفة، وبراعتك فى التلاعب بالزمن، وأظن أن الأخيرة هى التى أكسبتك خصوصية منفردة فى عالم هوليود ومنه إلى كافة أنحاء العالم.
عزيزي نولان، يجب أن تعلم أننى شاهدت أغلب أعمالك، إن لم يكن جميعها، ففى ثلاثية بات مان، أذهلتنى قدرتك على تحويل هذا العمل الكلاسيكي إلى ملحمة مبهرة عن الصراع الأزلي بين الخير والشر، وفى “Prestige” قدمت لنا الإثارة والغموض فى أبهى صورهما، وفى inception، أخذتنا فى رحلة فريدة من نوعها داخل أحلام البشر، وما يمكن أن يفعله العلم بنا، أما درة أعمالك السينمائية بالنسبة لى interstellar، قدمت لنا الفضاء كما لم يقدمه أحدا من قبل، وجعلتنى أبحث وأتقصى المعلومات عن نظرية النسبية، كى يكتمل فهم الفيلم فى رأسي، ثم أبهرتني فى فيلم dunkirk، وجعلتنى أتساءل كيف يمكن تقديم فيلم حربى دون أن يتضمن الفيلم رصاصة واحدة، أو بالأحرى دون مشاهد حربية كلاسيكية، ثم تلاعبت بعقولنا جميعا في فيلم tenet الذى ربما لم أفهمه حتى الان، لكنى استمتعت به.
عزيزي نولان، هذه مقدمة صغيرة لرسالتى إليك، كى تعرف مقدار انبهارى بأعمالك الفنية، حتى جاءت اللحظة التى قرأت فيها خبرا عن تقديمك فيلما عن شخصية أوبنهايمر “أبو القنبلة الذرية”، فى تلك اللحظة شعرت بغصة فى قلبى، حيث مر أمامى كشريط السينما، كل ما روي لى، وشاهدته فى التلفزيون، وعبر الانترنت عن إلقاء القنبلة الذرية على أهلى وأبناء وطنى قبل 78 عاما، اختلطت بداخلى المشاعر الرفض والحماس والترحيب والذكريات السيئة التى عاشها أبناء وطنى وجدودي، واحترت بين رغبتى فى مشاهدة أحدث أعمالك، ورفضي لفكرة مشاهدة فيلم عن شخص كان سببا فى تدمير بلدتى وابادة سكانها.
عزيزي نولان، نسيت أن أخبرك أننى من مدينة هيروشيما، وكما تعرف بالتأكيد فهي المدينة التى ألقت عليها الولايات المتحدة الأمريكية القنبلة الذرية المعروفة باسم Little Boy، فى نهاية الحرب العالمية الثانية، وفور سقوطها بأقل من 60 ثانية، أى أقل من دقيقة، قتلت نحو 66 ألف يابانى، وأصابت ما يقرب من مثلهم، ثم كانت المحصلة النهائية لهذه الإبادة 80 ألف وإصابة 90 ألف، وعشرات الآلاف من المشردين.
حكت لى جدتى عشرات المرات، “أنها كانت تبلغ من العمر 12 عاما حينما ألقت الولايات المتحدة القنبلة على هيروشيما، وكيف رأت صاعقة من البرق أو ما يشبه عشرات الآلاف الصواعق تومض في لحظة واحدة، ثم دوّى انفجار هائل، وفجأة ساد المكان ظلام تام، وعندما أفافت وجدت شعرها ذابلاً، وملابسها ممزّقة، وجلدها كان يتساقط عن جسدها، وعظامها مكشوفةبل أن الجميع كان يعاني من حروق شديدة، ويسيرون على وجوههم وكأنهم طابور من الأشباح، لقد غطّى المدينة ظلام دامس بعدما كانت منذ قليل تعجّ بالحياة، فالحقول احترقت ولم يعد ثمة ما يذكرنا بالحياة، ثم تختتم والدموع تملأ عينيها إني محظوظة لمجرد بقائي على قيد الحياة” ابحث عن صاحبة صاحبة تلك القصة على الانترنت وستجدها.
عزيزي نولان، لا أعرف حتى الآن ما إذا كنت سأشاهد فيلمك أم لا، ولا أعرف بالأساس ما إذا كانت بلادى ستعرض الفيلم أم لا، ولكنى بدافع الفضول، سألت صديقا من مصر عن الفيلم، ففوجئت بأنه شاهده، فطلبت منه أن يحكى لى الفيلم بأدق التفاصيل.
يقول صديقي إن الفكرة الأساسية من الفيلم ليست فى تفاصيل صناعة القنبلة، ولا فى التفاصيل الفيزيائية والكيميائية العلمية عن مكونات القنبلة، ولكن عن الصراع الذى خاضه أوبنهايمر مع نفسه وقت التحضير للقنبلة، ثم دفعه ثمن انتماءاته السياسية فى بداية حياته، وإقصاءه من مشروع منهاتن الذى شهد ولادة القنبلة الذرية، وشبه المحاكمة التى وقف أمامها لتجديد تصريحه الأمنى فى مشروع منهاتن، واتهامه بالشيوعية، والتلميح بأنه جاسوسا أو عميلا لصالح السوفيت، ثم تكريمه فى نهاية عمره كونه واحد من أبرز علماء الولايات المتحدة.
يحكي لي صديقي، كيف أن أوبنهايمر كان يخشى من إلقاء القنبلة على اليابان، وتحديدا أشخاص مدنيون، لا سيما أن اليابان كانت فى طريقها للاستسلام، وأنه كان يطالب المسئولين بالبحث عن بدائل أخرى، ورغم ذلك استمر فى مشروعه العلمي العظيم، وابتكاره الذى غير العالم، حتى جاءت لحظة إلقاء القنبلة على هيروشيما، التى لم يركز الفيلم عليها، ليبدأ أوبنهايمر شعوره بالندم الشديد من اختراع القنبلة، وأن يديه ملتخطان بالدماء، وقال كلمته الأشهر على الاطلاق “الآن.. أنا مدمر العوالم”.
يكمل صديقي بأنك يا سيد نولان، متعاطف ضمنيا أو ربما بشكل علنى مع أوبنهايمر، وبالتبعية يعني ذلك أنك تحمَل الإدارة الأمريكية وقتها والرئيس الأمريكي مسئولية قتل الآلاف من الأبرياء، وأن أوبنهايمر ما هو إلا ضحية ألاعيب السياسة القذرة، وممارسات الولايات المتحدة الأمريكية باستعراض عضلاتها “النووية” الجديدة لتسيطر على العالم الجديد.
بالطبع أبلغني صديقى كم هو منبهرا بتفاصيل الفيلم الفنية والصور السينمائية التى تبرع فى تقديمها، وتنقلك المرن بين الأزمنة الدرامية المختلفة، ودمجك للأبيض والأسود مع الألوان، واستخدام تلك الحيلة فى إظهار منظور الشخصيات للأحداث، وبراعة السيناريو والحوار، والموسيقى التى تتميز بها كافة أعمالك السينمائية.
ختاما، أريدك يا سيد نولان أن تعرف أن مشكلتى معك ليست شخصية، فأنت فى المعسكر المنتصر فى تلك الحرب، لكنى لا أمتلك القدرة على التعاطف مع أوبنهايمر، ولا حتى أتفهم موقفه، ولاستطيع أن أسامحه، حتى وان لم يكن قد ألقى القنبلة بنفسه، وحتى وان لم يكن القرار بيديه، إلا أن التاريخ يشهد بأنه هو مخترع أقوى سلاح مدمر فى ذلك الوقت.
بقى أن أقول أننى لا أعرف متى أستطيع أن أتجاوز تلك المشاعر السلبية التى انتابتنى بتقديمك لذلك الفيلم، لكنى أتمنى أن تزول سريعا، لأكون مستعدا لمشاهدة فيلمك القادم.