ملتقى الخزف العربي المعاصر …. حميمية الطين ورسائل الجمال
أ.د. تراث امين عباس
خزاف وناقد اكاديمي من العراق
منذ منتصف القرن العشرين بدء الخزف المعاصر في الوطن العربي يتحرك عبر تحولات جمالية شهدتها أنظمة الشكل والتقنية والمضمون , وبقية الاعمال الخزفية العربية تنتظم عبر دوائر خاصة في البلدان نفسها دون الانفتاح على الاخر الا في حدود ضيقة قد لا تتجاوز المشاركات المعدودة , الامر الذي خلق نوعا ما فجوة جغرافية بين الخزافين العرب انفسهم وبقي التواصل مقتصرا على المشاركات الدولية التي تحصل بين الحين والاخر .. وهذا الامر كان حافزا لتغيير ذلك الانغلاق والسعي على الانفتاح والتداول الجمالي بين الخزافين العرب وهو ما حققه ( موقع الخزف العربي المعاصر ) منذ عام 2020 , حيث اخذ الخزاف الاردني (يعقوب العتوم) على عاتقه تأسيس هذا التجمع ولملمة شتات الخزافين العرب في موقع كان الاول من نوعه على المستوى العربي لفن الخزف , حيث تبنى هذا الموقع مسؤولية أرشفة الاعمال الخزفية للخزافين العرب وتأسيس قاعدة بيانات مهمة للنتاجات الخزفية العربية المعاصرة , الامر الذي اثار اهتمام المختصين والمهتمين من الخزافين والنقاد والمتلقين في التواصل مع نتاجات خزفية جمالية لخزافين عرب البعض منهم لم تسمح لهم الفرص في الانتشار سابقا , فضلا عن خلق بيئة جمالية متنوعة من الاجيال المختلفة بين الرواد والشباب ..
ولعل من أهم نتائج هذا التأسيس هو توجه الباحثين لكتابة دراسات وبحوث أكاديمية تسلط الضوء على الخزف العربي المعاصر واهميته الثقافية والتأريخية والجمالية واهم تحولاته المعاصرة , خاصة وان موقع الخزف العربي المعاصر قد هيأَ مجتمعاً غنياً للبحث العلمي, ودعم بشكل مباشر كل الباحثين في هذا المجال من خلال تقديم المساعدة لهم بتوفير العينة البحثية وتوثيقها التأريخي وخصوصيتها التقنية ..
وهنا نشأت أولى ملتقيات التواصل الفني عبر لقاءات شهرية مع أهم الخزافين العرب , حيث تبنى كل من الخزاف الكويتي ( علي العوض ) والخزاف الاردني ( يعقوب العتوم ) تأسيس برنامج ( عاشق الطين ) الذي فتح الافاق والابواب على مصراعيها امام الخزافين العرب للتواصل واللقاءات الفيديوية المباشرة عبر برنامج الزوم , الامر الذي قرب المسافات واختصر جغرافية المكان بفضاء ميديوي يمتاز بحميمية الأخوة والصداقة التي يكون فيها الطين عاملا مشتركا لكل المشاركين والحاضرين , هذا البرنامج لم يكن مجرد لقاء صحفي بل هو محاضرات مهمة تنوعت بين العلم من جهة والنقد والفلسفة من جهة اخرى فضلا عن التعريف بخصوصية الاسلوب وانظمة الاشكال لكل خزاف عربي ..
وفي خضم هذا الحراك الجديد والفاعلية التواصلية للخزافين العرب عبر موقع الخزف العربي المعاصر وبرنامج عاشق الطين , ظهرت الحاجة لأرشفة توثيقية مطبوعة للخزف العربي المعاصر , وهذا ما تبناه الخزاف الاردني يعقوب العتوم في اصدار كتاب عن الخزف العربي المعاصر والذي يحتفل بتوقيعه ضمن فعاليات ملتقى الخزف العربي المعاصر في الكويت , وهذا الكتاب يشكل من الاهمية الكبرى كونه يجمع مجموعة كبيرة من الخزافين العرب بمختلف الاجيال ونتاجاتهم الخزفية الأمر الذي يعد الخطوة الاولى تجاه هكذا توثيق مهم لفن الخزف العربي المعاصر .
كما يجدر بنا الاشارة الى ان البداية الاولى كانت في الملتقى الاول للخزافين العرب والذي حدث في فترة جائحة كورونا حيث الانغلاق والحظر التام الذي شهده العالم اجمع , ولدت فكرة التواصل عبر فضاء الميديا وعبر قنوات التواصل الاجتماعي لينظم ( المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب في دولة الكويت ) معرض بعنوان ( فايروسات من طين ) وذلك عام 2021 وبرعاية ( بيت الخزف الكويتي ) وهو كان الشرارة الاولى لجمع 60 خزافا عربيا في ملتقى عبر الواقع الافتراضي , وليكون للمجلس الوطني الاصرار في جمع الخزافين وتنظيم ملتقى حضوري لهم برعاية المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب , وهذه المرة على ارض الواقع وفي ارض الكويت .. حيث كان للفنانة التشكيلية ( ديمة القريني ) مسؤولة بيت الخزف الكويتي الدور الفاعل والمميز في رعاية ودعم وتنظيم ذلك المعرض , والدور الفاعل والرعاية المائزة لتنظيم احتفالية الخزف العربي المعاصر بنسخته الحضورية الاولى .
ومن خلال سلسلة تلك اللقاءات عبر موقع الخزف العربي وبرنامج عاشق الطين بدأت تتبلور فكرة تنظيم ملتقى للخزف العربي المعاصر يجمع اهم الخزافين العرب ومن اجيال مختلفة في اسبوع ثقافي جمالي احتفالي , وبنقاشات متواصلة بين الخزافين العرب ربما من ابرزهم ( شنيار عبدالله من العراق , علي العوض من الكويت , تراث امين عباس من العراق , يعقوب العتوم من الاردن , …. وآخرون ) نشأت وتأكدت فكرة الملتقى والذي اخذت دولة الكويت / بيت الخزف الكويتي على عاتقه تبني الموضوع وتهيأت الاجواء والامكانات لأستقبال هذا الجمع المائز من الخزافين العرب , والاهتمام الواضح بهذا المحفل الثقافي الجمالي متمثلا بالدعم والرعاية والمساندة التي ابداها ( السيد مساعد الزامل الامين العام المساعد لقطاع الثقافة والفنون في المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب ) خاصة وما أشار له في المؤتمر الصحفي الذي عقد للاعلان عن احتفالية الخزف العربي المعاصر , ورأيه في أهمية فن الخزف في الوطن العربي وضرورة احتضانه والمضي به نحو العالمية .
ومن خلال ذلك سعت كل تلك الجهات والمشرفين عليها في تنظيم برنامج يشمل ورشات عمل مشتركة للخزافين وعرض اعمالهم الخزفية , وأفتتاح المعرض المشترك للخزف العربي المعاصر , فضلا عن اقامة ورشة خاصة بالخزاف المصري ماهر عراقيب للطباعة على الطين , وزيارات ميدانية لمراكز ثقافية وفنية , فضلا عن خصوصية ورشة الراكو الذي سيشترك فيها الخزافين العرب لاقامة حفل راكو وانتاج اعمال راكوية مباشرة ..
ولعل من الجدير بالاشارة الى اهمية هذا الملتقى والذي يحضره رئيس الاكاديمية الدولية للخزف في سويسرا البروفيسور ( توربجورن كفاسبو ) والمحاضرة الخاصة التي يقدمها حول اهمية الملتقى وفاعليته وحجم الخزف العربي المعاصر في الساحة الدولية خاصة وان بعض من المشاركين العرب في هذا الملتقى هم أعضاء في الاكاديمية الدولية وهم كل من ( شنيار عبد الله , يعقوب العتوم , تراث امين عباس , سارة بن عطية , علي العوض , ليث عباس ………….. ) .
وهذا مايؤكد المتحول الجمالي والحضور الفاعل للخزف والخزافين العرب في دائرة التشكيل الخزفي العالمي المعاصر , وان فن الخزف العربي لا ينغلق بدائرة ضيقة بل هو قادر على الانفتاح والتأثير في المحيط الجمالي , وان الخزافين العرب على قدر المسؤولية في رفع اسم الخزف العربي المعاصر في المحافل الدولية وفاعلية التأثير في التأريخ الجمالي المعاصر , وهذا ما شهده الملتقى من تنوع في انظمة الاشكال والتقنيات والاساليب , والتلاقح الثقافي والجمالي البصري الذي تخلقه ورشات العمل المشتركة لبلورة النتاج الجمالي للخزف برؤيا عربية معاصرة لا تخلو من مزاوجة واضحة بين المرجع الحضاري الغني للبلاد العربية وبين المعاصرة ورؤاها المتحولة جماليا ..