أخبار مصر

مصطفى الفقي يكتب: مسئولية الكلمة بين الخبر والرأي

علينا أن نختار إما أن نكون بين مقاولى البناء أو من ضمن معاول الهدم.
تمر المنطقة بظرف تاريخى صعب تتأرجح فيه قدرات الأمة بين الوعى الكامل بما يدور حولنا والألم الشديد لما يحدث لأشقائنا من أبناء الشعب الفلسطينى ومعاناة من فقدوا كل شىء، الأرض والمسكن والطعام والكساء والأمن والأمان، بل كل مقومات الحياة.
فى ظل تلك الأجواء الضبابية تنتشر الأخبار وتزداد الإثارة وتسود الأحزان، هنا تكون الحياة أكثر حساسية وأشد صعوبة لأن المرء يكتشف أنه يمكن أن يواجه المواقف الطارئة من دون توقع أو يشهد المنعطفات المفاجئة التى تحتاج إلى قدرة على الاختيار بمنطق يعى أن البشر فى النهاية إنما يعيشون فى صراع دائم ويواجهون حالا من الاشتباك الذى لا ينتهى، فالحياة فى النهاية هى موجات من الصعود والهبوط فى حياة الأمم والشعوب كما هى فى حياة الأفراد والجماعات.
نحن العرب نملك لغة ثرية للغاية، بل مطاطة أيضا تحمل مظاهر التأويل وأسباب التفسير الذى يعتمد فى النهاية على فهم النوايا وسبر الأغوار، خصوصا إذا كان المرء بطبيعته حسن النية، كما أن البقية الباقية فى الأعمار غير كافية للدخول فى صراعات غير مناسبة للاصطدام بالغير، بخاصة أن نهاية الحياة يحددها الخالق وحده، فلا تدرى نفس ماذا تكسب غدا وبأى أرض تموت.
قد يتعرض المرء فى حياته لخبطات غير متوقعة، كمن يمشى فى أحد الشوارع فتسقط فوق رأسه قطعة من الحجر تسبب له أضرارا صحية ونفسية بالغتين، وقد لا يكون الإنسان على بينة مما حدث ولا يدرك مبكرا النتائج المترتبة على ذلك، فهو يتوهم أن السرديات حديث مفتوح من دون أن يدرك حجم الحساسيات التى تحيط كل كلمة ويتم تأويلها من كل سطر، إنها نمط من نظرية الاغتيال المعنوى الذى يستهدف الشخص فى من يحبهم ويقدرهم سواء كان زعيما سياسيا ملأ الدنيا وشغل الناس أو كوكبا مضيئا فى سماء الفن فهم بالنسبة إليه مصدر إلهام منذ بدأ يعى كيف يحس الإنسان بما حوله.
فالكوكب المضىء الذى هز أوتار الحياة وحرك مشاعر عشرات الملايين أكبر وأعظم من أى تأويل عابر أو تفسير مغلوط، ولقد توهم صاحبنا أن عليه أن يسجل انطباعاته من دون استهداف لأحد أو اصطياد لشخص، فهو لا يستطيع أن يلعب مباراة صفرية مع الكبار لأنهم حفروا أسماءهم وشكلوا مكانتهم بما قدموه للأوطان أو الفنون أو الآداب، التشهير والإثارة أسلحة عصرية لتلوين الحقائق، لكن ليس منا من هو معصوم من الخطأ أو عصى على الوقوع فى ما يجب ألا ينزلق إليه.
قد شهدت فى حياتى أمثلة عدة لأخطاء يقع فيها أصحابها من دون تعمد بل ربما بلا وعى لحظى، خصوصا أن من وقع فى ذلك الخطأ لا يكاد يتذكره والظرف الذى قيل فيه والمنطلق الذى وقف وراءه، مما دفع صاحب الشأن إلى المراجعة الأمينة والتصحيح الواضح.
نحن لا ندرك أو لعلنا نتجاهل أن الأعمال بالنيات وليست هناك دوافع شخصية فى ما ورد فى هذا الشأن، بخاصة أن الاسترسال فى الحديث يؤدى أحيانا إلى الوقوع فى دائرة ضبابية لا تعبر بدقة عن صاحب القول ولا تعكس فكره الحقيقى، وقد يكون أولئك الذين توهم بعض منهم أننا ننتقدهم هم فى الحقيقة أقرب الناس إلى قلوبنا وأكثرهم اقترابا إلى مبادئنا.
لقد عشت دائما على صوت صاحبة «سلوا قلبى» و«رباعيات الخيام» و«الأطلال»، بل إننى حصلت على الدكتوراه من جامعة لندن على أنغام صوتها الشجى وأدائها العبقرى مثلما قال لى العالم الكبير الراحل الدكتور أحمد زويل إنه حصل على جائزة نوبل وهو يستمع إلى صوت كوكب الشرق، كل الوقت أثناء بحوثه الجادة ودراساته الفذة.
أنا شخصيا عشت فى مدينة لندن أعواما عدة والكاسيت فى السيارة طوال تحركى فى العاصمة البريطانية يصدح بصوت الكوكب يشدنى إلى الجذور الأصيلة فى حياة الشرق وحضاراته الباقية، أما ذلك الزعيم الكبير فلست إلا من المؤمنين بما له والمدركين لما عليه، بخاصة أن حياته الشخصية ناصعة البياض وما زال الملايين يرفعون صورته فى كل مناسبة لأنه كان رئيس العدالة الاجتماعية والتحرر الوطنى.
ومن حسن حظى أن رصيدى لدى الناس، بسطاء الناس، كبير لأننى وطنت نفسى على خدمة الجميع بلا استثناء وعلى نحو يعرفه الآلاف ممن قصدونى فى خدمة مشروعة، فلم أضن على شخص بالمساعدة ولم أتردد فى تقديم يد العون لكل من طلبها.
ونحن نعيش الآن لحظات فارقة فى تاريخ الوطن المصرى الذى يبنى مع أشقائه العرب مستقبلا أفضل للأجيال المقبلة، بعيدا من ويلات الحروب وأخطار التبعية وقد قيض الله للكنانة نفرا من قياداتها يؤمنون بالله والوطن ويستهدفون الخير للبلاد والعباد فى ظل ظروف شديدة الحساسية بالغة التعقيد، ولكن قدرتهم على الصبر ومواجهة الصعاب جعلتهم قادرين على التصدى لما يهب على الكنانة من رياح عاصفة وأنواء شديدة ولكنها تبقى دائما درعا لشعبها وحاضنة لأمتها فى أصعب الظروف وأحلك الأوقات!، بخاصة أن التكنولوجيا غيرت الأوضاع تماما فأصبح الانتصار فى الحروب لا يعتمد على الشجاعة بقدر اعتماده على تكنولوجيا السلاح بأدواته القاتلة وآلياته المدمرة، كما أن الإعلام أصبح يقوم بدور مهول فى صنع الصورة أو الاغتيال المعنوى للشخوص.
إننا أمام نقلة نوعية ضخمة توحى بأن الأمور تسير فى طريق مختلف فلا مكان لأسرار فى حياة الأمم ولا يصعب إخفاء حقيقة مهما طال الزمن، فالسماوات مكشوفة وأدوات التعامل مكفولة ولم تترك التكنولوجيا مجالا للإخفاء أو الكتمان حتى قيل إن الخبر السرى للغاية فى الولايات المتحدة الأمريكية يعرفه فى الدقائق الأولى عشرات الأشخاص على رغم المحاذير والاحتياطات والرغبة فى السرية الكاملة.
كما أننا أمام عالم يموج بتيارات متضاربة وأحيانا أتساءل فى صمت أما كان الأجدى أن يعيش المرء فى قريته بعيدا من الأخبار والآراء يمضى عمره فى حياة بسيطة؟، وأنا أعرف زميلا كبيرا كنا نعمل معا فى سفارة مصر بلندن منذ 50 عاما وعندما أحيل إلى التقاعد أمضى سنوات حياته الأخيرة فى مسقط رأسه يذهب إلى الحقل ويهتم بالثروة الحيوانية ويعيش فى بيت ريفى بسيط.
عندما سألته عن ذلك بعد أعوام حين التقيته، فإذا به يشرح لى سعادته البالغة وارتياحه الشديد لشكل الحياة الجديدة وجوهرها والخروج من دائرة النفاق البشرى والصدام الذى لا ينتهى، ورحل هذا الصديق منذ أعوام قليلة ولكنه ترك تجربته أمام الجميع ليدركوا أن على المرء أن يعمل لحياته كأنه يعيش أبدا ولمكانته كأنما يموت غدا، إنها فلسفة الحياة ودورة الكون فوق هذا الكوكب الذى يهدده الطقس المتحول أحيانا والمياه النادرة غالبا، فضلا عن أزمات الطاقة وشيوع الفقر ونقص الغذاء، ناهيك عن النزاعات المسلحة والحروب الدامية والخروج على الشرعية الدولية والسياسات الخرقاء التى تعتمد على البغى والعدوان ولا تقيم وزنا للأرواح البشرية ولا للدماء الزكية، فهى تشارك فى معركة آثمة تمعن فى القتل والتخريب والتدمير بلا وازع من عقيدة أو ضمير.
ألم أقل فى البداية أن الكلمة سلاح فتاك قد يبنى وقد يهدم وعلينا أن نختار إما أن نكون بين مقاولى البناء أو من ضمن مقاولى الهدم، فالبشر فى النهاية هم أبناء الخطيئة ولا عصمة إلا لنبى ونعود فى النهاية لنتدارك الأمر كله بكلمات بسيطة مؤداها تفاءلوا بالخير تجدوه على رغم الأشلاء والدماء والكوارث والسياسات الحمقاء!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *