متى نجد العين الثالثة.. فيلم أنف وثلاث عيون رحلة داخل ذكريات الفرد المبتورة وأثرها عليه
بعد عرضه في مهرجان البحر الأحمر السينمائي منذ أسابيع، بدأت جولة فيلم “أنف وثلاث عيون” في السينمات المصرية مع مطلع شهر فبراير، من بطولة ظافر العابدين وصبا مبارك وسلمى أبوضيف وأمينة خليل، وهو معالجة حديثة لرواية الكاتب المصري إحسان عبدالقدوس، سيناريو وائل حمدي وإخراج أمير رمسيس.
تدور الأحداث حول شخصية هاشم (ظافر العابدين)، رجل أربعيني معروف اجتماعيا بسبب عمله كطبيب تجميل يتعامل مع المشاهير، ولكنه يقرر الذهاب إلى عليا، طبيبة نفسية (صبا مبارك) نتيجة ضغط شقيقته (كريمة منصورة)، بعد مهاجمة كابوس متكرر نوم هاشم، يرى من خلاله يد تحمل مسدسا في مكان مألوف لكن لا يرى الشخص نفسه، كما يؤرق هاشم علاقته مع روبا (سلمى أبو ضيف) نظرا لفارق السن بينهما، وهو يعتقد أن الأمرين ليس لهما علاقة ببعضهما، لكن يكتشف في النهاية أن أزمة علاقته بروبا تبدأ من التعرف على سبب الكابوس.
يقدم السيناريست وائل حمدي، حكاية جديدة وعصرية بناء على الرواية القديمة تتغير فيها أطراف الصراع، حيث يكون التركيز داخل هاشم ذاته من خلال المبتور داخل ذاكرته وتأثيره على قراراته فيما بعد وتحديدا علاقاته بالنساء، وتعمل روبا كالحجر الذي يحرك المياه الراكدة في عقل هاشم ليبدأ رحلته في استكشاف سبب خوفه من العلاقات.
ومن خلال السيناريو الجيد على مستوى الحبكة ورسم الشخصيات والتصاعد الدرامي للأحداث استطاع العمل مناقشة أكثر من فكرة في تناغم تام دون تنافر أو الشعور باقحام بعض من الخطوط الدرامية من أجل الحكم على الشخصيات أو إدانتها أخلاقياً، ونتعرض لبعض ما طرحه الفيلم في السطور التالية:
– لماذا فقد هاشم جزء من ذكرياته؟
في الخط الخاص بشخصية هاشم سنلاحظ تشابه بينه وبين شخصية ليلى في فيلم حظر تجول، للمخرج أمير رمسيس أيضاً، الشخصيتان يحدث لهما صدمة -باختلاف نوع الصدمة الخاصة بكلاهما- ونتيجة لهذه الصدمة يقوم العقل بقص جزء من الذكرى المرتبطة بتلك الصدمة ويحتفظ بجزء صغير منها، مما يجعل الشخصيتان في حالة تخبط في حاضرهما، لأن الجزء المبتور من الذكرى يؤثر على قراراتهم بشكل غير واعي، لأن اللاوعي اختزن الذكرى بشكل مجتزأ.
يهاجم كابوس متكرر هاشم ويجعله متخبطاً، يرى فيه رجل يمسك بسلاح ناري (مسدس) لكن لا يرى وجه الرجل، ومع تقدم الأحداث تكشف الطبيبة النفسية الأجزاء المحذوفة من الكابوس لهاشم، بعد تواصلها مع والده، ويعد ما حدث لهاشم طبيعيا من منظور اضطراب ما بعد الصدمة، حيث تعمل الدماغ على حذف بعض أجزاء من مواقف قاسية يمر بها الطفل/ الفرد، وهو ما يطلق عليه علم النفس “الانفصال”.
تفسر جيم هوبر، وهي خبيرة في الصدمات النفسية، طريقة عمل الدماغ وتخزين الذكريات، أن معالجة الذاكرة تتم على 3 مراحل، هي التشفير والتخزين والاسترجاع، وفق مجلة “التايم”، ويشير مصطلح “التشفير” إلى التسجيل المؤقت للأحاسيس والأفكار في الذاكرة قصيرة المدى، وهو نوع من “المخزن المؤقت” أو ذاكرة الوصول العشوائي (RAM) التي يمكنها الاحتفاظ بالمعلومات حتى 30 ثانية فقط، والتخزين هو المرحلة التالية، ويتم فيها تحويل المعلومات المشفرة بحيث يمكن الاحتفاظ بها في الدماغ.
وقالت الشاعرة الأمريكية إميلي ديكنسون ذات مرة، “العقل أوسع من السماء”، وهذا صحيح عندما يتعلق الأمر بتعقيد تخزين الذكريات، يشكل المخ، أو الدماغ الأمامي، الجزء الأكبر من الدماغ، وهو مغطى بطبقة من الأنسجة العصبية المعروفة باسم القشرة الدماغية، والتي تغلف الجزء من دماغنا حيث يتم تخزين الذكريات، ووفقًا دارلين ماكلولين، طبيبة نفسية وأستاذة مساعدة في كلية الطب بجامعة تكساس إيه آند إم، “إذا سجل الدماغ صدمة ساحقة، فيمكنه بشكل أساسي حجب تلك الذاكرة في عملية تسمى الانفصال عن الواقع، وسيحاول الدماغ حماية نفسه بحذف جزء منها”، وأوضحت في موقع “نيوز ميديكال”: “بنفس الطريقة التي يستطيع بها الجسم عزل المادة الغريبة لحماية بقية الجسم، يمكن للدماغ أن ينفصل عن التجربة، في خضم الصدمة، ويعمل على تجنب الذاكرة، ويحدث ذلك بمقدار متفاوت يختلف من شخص لآخر”، ويحدث الانفصال كجزء من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).
في سياق متصل بأجواء الفيلم نلاحظ أيضا استخدام أمير رمسيس لأغنية عبدالحليم حافظ “بيني وبينك إيه” كخط موسيقي موازي لشخصية روبا وعلاقتها بهاشم، وهي نفسها الأغنية التي استخدمها أمير في فيلمه “حظر تجول ” وارتبطت بشخصية يحيى (كامل الباشا).
– ليست العلاقات السيئة فقط تؤذينا
يطرح الفيلم مفهوما مغايرا لمشاكل الأبناء الناتجة عن علاقات الآباء، المعتاد أن يكون الشخص لديه مشكلة نفسية أو اضطرابا ما في شخصيته بسبب العلاقة السيئة بين الأب والأم والتي نتج عنها بيئة سلبية بالنسبة للطفل، ولكن في فيلم “أنف وثلاث عيون” يركز السيناريست وائل حمدي على العكس.
– كيف يمكن أن تؤثر علاقات الآباء المثالية على مستقبل أبناءهم بالسلب؟
ويناقش في هذا الجزء كيف أدى كل من الحياة الأسرية المثالية لوالد ووالدة هاشم، ووالد ووالدة الطبيبة عليا، إلى تأثيرات سلبية على قراراتهم في علاقاتهم العاطفية، حيث أدى تعلق والد هاشم الشديد بوالدته وتفكيره في الانتحار إلى نفور الابن وهربه من التعلق بالشريك خوفاً من أن يصل إلى مصير والده، وكل هذا تكون بشكل لاواعي داخل عقله، بينما أدى الحب القوي بين والد ووالدة عليا إلى فشلها في علاقتها الزوجية لأنها رأت نموذجا مثاليا لم تستطع الحصول عليه، سواء على مستوى الحب أو التقدير، مما جعلها غير قادرة على تقبل نقص الشريك الآخر وعيوبه، وأيضاً على مستوى عملها تبحث عن ما يسمى “perfectionism” / المثالية / الكمال، فهي تسعى إلى الحصول على أفضل نتائج مع مرضاها سريعا مما يؤدي إلى انهيارها سريعا أيضا مع كلمات النقد، وتدني احترام الذات، لأنها أكثر حساسية للنقد، واتضح ذلك في تأثيره على شخصية عليا عندما هاجمها هاشم واتهمها بالفشل وسرعان ما لجأت لطبيبها النفسي للتعامل مع الأمر .
– انقطاع التواصل بين الآباء والأبناء يخلق مشكلة
يحتوي الفيلم على مستوى آخر من الحكي والنقد للعلاقة بين الآباء والأبناء، وإن لم يتم التعرض له بشكل مباشر من خلال الحوار بين الشخصيات، فهو مستتر تحت الجزء السابق من المشاكل التي مر بها كلا من عليا وهاشم، وهو انقطاع التواصل بين الطرفين، عندما توفت والدة هاشم وحاول والده الانتحار، ورغم رؤية الأب للابن وهو يجري بعيدا وعلمه برؤية الابن للحظة امساكه بالمسدس إلا أنه لم يحاول التواصل معه أو تتبعه واحتضانه، أو الحديث معه فيما بعد عن هذه اللحظة، واكتفى كلاهما باسقاط الذكرى وكأنها لم تحدث، وأيضا عليا لم يتحاور معها أهلها عن علاقتهما وأنها ليست النموذج الوحيد للحياة الأسرية، وهذه المثالية ليست دائما وإنما لحظات ولا يوجد حياة فارغة من الخلافات بين الزوجين.
– العين الثالثة.. الرابط بين الوعي واللاوعي
يحمل الفيلم كثيرا من الدلالات بداية من اسمه “أنف وثلاث عيون”، والتي تحدثت عنها عليا في حوارها مع هاشم، أن هناك عين للعقل وعين للغريزة وعين للقلب وهي الفكرة الأساسية للرواية والفيلم في نسخته القديمة وأيضا الحديثة ألمحت له، ولكن يمكن تحليل العيون الثلاث بشكل آخر، وهي عين الوعي وعين اللاوعي وعين ثالثة تبصر عندما يحدث التواصل بين الوعي واللاوعي.
ونجد أن هاشم لم يستطع فهم مشكلته الحقيقية – الكابوس وعلاقته بروبا- إلا عندما انفتحت عين ثالثة تربط بين وعيه (علاقته روبا) ولاوعيه (الذي اختزن ذكرى محاولة انتحار والده)، وهذه العين الثالثة هي التي يحتاجها الفرد لخلق لغة تواصل مع كل ما يؤرقه ومحاولة فهمه.