أخبار مصر

مصطفى الفقي يكتب: الأحزاب العربية والسياسات الإقليمية

لحسن الحظ فإن صحوة عربية إسلامية تحترم المعاصرة وتؤمن بمنطق التطور ووجدت طريقها إلى السلطة خلال السنوات الأخيرة.
تنقسم الأحزاب العربية إلى عدد من المجموعات أبرزها ثلاث، الأولى ذات خلفية دينية إسلامية بالدرجة الأولى، والثانية ذات خلفية قومية عروبية بالدرجة الأولى أيضا، أما الثالثة فهى أحزاب تنتمى إلى أقطار معينة فى العالم العربى وتعبر عن الشخصية الوطنية.
إذا أردنا أن نفتح ملف الأحزاب فى العالم العربى فإننا نمضى أولا مع المجموعة الدينية التى اتخذ بعضها شكل الحزب السياسى بينما اتخذ البعض الآخر شخصية دينية تتوافق مع أهداف الأحزاب القائمة.
ونبادر هنا فنؤكد أن مفهوم الحزب السياسى فى الوطن العربى مطاط بطبيعته وقد لا يعبر فى بنائه وأسلوب عمله تعبيرا دقيقا عن النمط السائد للأحزاب السياسية المعاصرة فى غرب أوروبا وغيرها من المناطق التى تأخذ بالأسلوب الديمقراطى التقليدى والذى أقره شراح القانون الدستورى ومن أبرزهم الفقيه الفرنسى موريس دوفرجيه.
الأصل فى الحزب أنه جماعة بشرية تعتنق فكرا واحدا وتستعين بالسلطة لتحقيق أهدافها لأن غياب السعى إلى السلطة يسقط تماما مفهوم الحزب ويجعله مجرد جمعية تعاونية، فاستهداف السلطة شرط أساسى للوصول إلى الحكم وفقا للنظرية العامة للأحزاب السياسية بمفهومها الحديث.
وليس شرطا أن يولد الحزب بكيانه الكامل لكى يتوافق مع المفهوم العصرى للحزب السياسى وقد يبدأ بجماعة ذات إطار فكرى أكاديمى مثلما هو الأمر بالنسبة إلى الجماعة (الفابية) فى بريطانيا والتى أصبحت فى ما بعد نواة لحزب العمال البريطانى.
وقس على ذلك عشرات الأمثلة لتجمعات بشرية ذات وحدة فكرية تحولت إلى حزب سياسى فيما بعد وأصبحت ذات تأثير واسع فى حاضرها ومستقبلها المتطور وفقا للقناعات التى يمضى بها أصحابها والتحولات التى تطرأ على بعض الأفكار فتجعلها أقل راديكالية وأكثر مرونة وفقا للواقع الذى يحيط بها.
ولو طبقنا هذا الأمر على الأحزاب الدينية فى العالم الإسلامى لوجدنا أنها تستند فى مجملها على منطق الحاكمية فى الإسلام ﴿إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ۚ ولا تكن للخائنين خصيما﴾ وهو ما يعنى الاستناد فى النصوص المقدسة إلى القرآن الكريم والسنة المؤكدة، وهى مصادر الشرعية بالنسبة إلى الأحزاب الدينية فى المشرق على رغم أنها تحمل فى طياتها جذور الاختلاف مع غيرها والسعى نحو تأكيد ذاتها وتعظيم تأثيرها وغالبا ما تقوم على أساس الطاعة العمياء بسبب قداسة النصوص التى تستند إليها والأفكار التى تعتنقها.
وهذه الأحزاب وليدة ظروف معينة ومناخ سياسى سائد وبيئة ثقافية حاضنة، فـ«حزب الله» مثلا فى لبنان يمثل اللبنانيين الشيعة مع غيرهم من الطوائف التى تؤمن بتوجهات إيران وتتخذ مواقف إقليمية متسقة مع تلك التوجهات التى تدعم سياسات إيران الإقليمية والدولية.
لقد تضخمت تأثيرات «حزب الله» اللبنانى لتغطى مساحة واسعة من سياسات الدولة اللبنانية بجميع طوائفها ولم يقف الأمر عند ذلك الحد بل امتد الأمر لكى نجد تحت مظلة الحزب ساحات للمواجهة العسكرية مع الغير مثلما رأينا الحرب الحوثية عند منطقة المضايق بباب المندب جنوب البحر الأحمر، فضلا عن مناطق تأثير أخرى تدفع فيها إيران إلى التصدى للمصالح الأمريكية واصطياد جنودها، لذلك فإننا نصنف «حزب الله» لا على أنه حزب دينى بل هو حزب سياسى بالدرجة الأولى له أجندته وتطلعاته التى تتبنى سياسات إقليمية تجعل إيران طرفا فى كثير من سياسات المنطقة.
وحقيقة الأمر أن الدولة الفارسية ــ بما لها وما عليها ــ تسعى إلى أن تحيل الوضع الذى كان فيه شاه إيران ــ شرطى الخليج ــ إلى وضع أكثر اتساعا يجعل حكم الملالى مركز الثقل والرقم الصعب فى المنطقة.
لقد نجح الإيرانيون فى تصدر المشهد وقد قال أحد المسئولين الكبار فى طهران ذات يوم أن أربع عواصم عربية فى أيديهم، مدعيا أن (بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت) تدور كلها فى فلك إيران وليس هذا وصفا دقيقا لما يجرى فنحن لا ننكر أن هناك تداخلا فى العلاقات سلبا أو إيجابا بين تلك الدول العربية وإيران ولكن الغطاء الأكبر هو فى النهاية غطاء عقائدى يخفى التطلعات السياسية والأدوار المتصلة بإيران كلاعب كبير ومؤثر فى الصراعات التى تدور فى المنطقة، وتحاول كل الأطراف استخدام القضية الفلسطينية باعتبارها «قميص عثمان» الذى تستتر به كل التوجهات الإقليمية فى واقعنا الإسلامى المعاصر.
ونعود لكى نؤكد هنا أن «حزب الله» هو نمط خاص بين الأحزاب لا فى العالمين العربى والإسلامى وحدهما بل بين النظم الحزبية القائمة حاليا، فإذا انتقلنا إلى النمط الثانى من الأحزاب وهى الأحزاب القومية فإن حزب البعث العربى الاشتراكى وحركة القوميين العرب والوحدويين الاشتراكيين وقس عليهم طابورا طويلا من الحركات العروبية تحت مسمى أحزاب سياسية، فلقد أسس زكى الأرسوزى وميشيل عفلق وصلاح البيطار وغيرهم حزب البعث العربى الاشتراكى الذى تولى السلطة فى دولتين عربيتين من قبل هما سوريا والعراق وكانت له أجنحته القطرية فى دول أخرى مثل لبنان والأردن.
لقد اصطدمت تلك الحركات العروبية بالحركة الناصرية وتمكن البعثيون من إسقاط دولة الوحدة فى سبتمبر 1961 حتى تشرذمت بعد ذلك الحركات القومية انطلاقا من تطورات القضية الفلسطينية التى تمحورت حولها وظلت تعتبرها الثابت المستقل فى كل التطورات التى جرت بعد ذلك حيث تراجع المشروع القومى العروبى لمصلحة المشروع الدينى الإسلامى فمنذ رحل عبدالناصر خفتت النغمة القومية وتصدر الإسلاميون المشهد فى كثير من الدول العربية والإسلامية وأصبحت الأحزاب ذات طابع سلفى يمزج بين الدين والسياسة ولا يحقق دورا واضحا فى الحياة السياسية العربية وضعف المفهوم الحزبى بشكل واضح.
وإذا انتقلنا إلى النموذج الثالث من الأحزاب السياسية ذات الطابع القطرى المحلى فإننا نواجه أحزابا مصرية قديمة بدأت منذ الحزب الوطنى الأول وحركة العرابيين داخله إلى أن ظهر الحزب الوطنى الكبير بقيادة شاب مصرى واعد رحل فى مطلع الثلاثينيات من عمره وأعنى به زعيم الحزب الوطنى الأصلى مصطفى كامل باشا إلى أن قامت ثورة 1919 ورفعت شعارات وطنية وليبرالية وعلمانية تمكنت بها أن تكتسح الشارع المصرى فى إطار وحدة وطنية بين الهلال والصليب على أرض مصر.
وظل حزب الوفد متصدرا المشهد حتى ثورة يوليو 1952 عندما مضت البلاد فى طريق مختلف يقوم على تنظيم حزبى واحد بدءا من هيئة التحرير مرورا بالاتحاد القومى ثم الاتحاد الاشتراكى ثم حزب مصر حتى وصلنا إلى الحزب الوطنى الذى أنتهى بثورة 25 يناير عام 2011 لكى تظهر الأحزاب السياسية الفرعية فى مصر مثلما هو الأمر فى الدول التى تأخذ بالتعددية الحزبية فى أنحاء الوطن العربى.
وهكذا مضت مسيرة الأحزاب السياسية فى عدد من الدول العربية فعرف العراق ــ مثلا ــ حزب الدعوة الذى أفرخ قيادات على المسرح السياسى بعد سقوط نظام صدام حسين، فلقد وعى الجميع أن الأحزاب لا تكون مؤثرة ما لم تنبع من الشارع لكى تكون معبرة عن إرادة الجماهير التى تتمسك بالثوابت القومية والطقوس الدينية على رغم تراجع أنماط الثقافة ومظاهر الحداثة والدخول فى صدام بين الضغوط الخارجية والإرادة الوطنية.
ولحسن الحظ فإن صحوة عربية إسلامية تحترم المعاصرة وتؤمن بمنطق التطور وجدت طريقها إلى السلطة خلال السنوات الأخيرة ونذكر فى هذا الصدد المؤشرات الحالية فى دول مثل مصر والسعودية والجزائر والمغرب، كما أن عودة العراق إلى أحضان أمته العربية تمثل إضافة إيجابية للمشهد العام.
ولا يمنع ذلك من الإشارة فى أسى وألم إلى الأوضاع الصعبة فى سوريا وليبيا والسودان واليمن وغيرها من الدول التى تحملت شعوبها أعباء لم يتوقعها أحد حتى جاءت كارثة الحرب على غزة لكى تكون ناقوسا يدق للجميع تأهبا لتحديات جديدة وأزمات قادمة واستهدافا للعرب والعروبة على نحو غير مسبوق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *