ذكرى رحيل الأستاذ.. بـ10 جنيهات قصة رهان محمد حسنين هيكل بعدم دخول مصر حرب فلسطين
وتعد تجربة هيكل الصحفية ذات استثناء وخصوصية على أكبر قدر، ولا تزال سيرته وتاريخه حاضرا في ذاكرة الصحافة العربية، كونه على رأس المساهمين في إثرائها بمقالاته مؤلفاته وأحاديثه التلفزيونية.
ومن تجارب هيكل البارزة طوال مسيرة 70 عاما في الصحافة، كانت شهادته على حرب فلسطين في 1948 بكل المراحل بداية من المقدمات مروا باندلاع القتال إلى أن توقفت النيران مع هزيمة الجيوش العربية.
وروى هيكل، بعضا من ذكرياته وشهادته عن الحرب في مؤلفاته وحواراته الصحفية والتليفزيونية، والتي نقلها الكاتب الصحفي محمد الباز في كتابه الصادر بعنوان “هيكل المذكرات المخفية: السيرة الذاتية لساحر الصحافة العربية” الصادر عن”دار ريشة”.
مصر لن تدخل الحرب
مع اقتراب انسحاب الجيش البريطاني من فلسطين في مايو1948، لتمهيد الأمر لإقامة الدولة الإسرائيلية، كانت التوقعات ترجح مواجهة عسكرية بين القوات العربية والعصابات الصهيونية، ولكن مسألة دخول الجيش المصري لتلك المعركة لم تكن محسومة وتردد الأمر على مسامع هيكل في لقاءات عدة جمعته بالقادة العرب ورجال الحكومة بمصر.
يقول هيكل:” أننى قابلت النقراشى باشا خلال يومين قضيتهما فى القاهرة إجازة من أحداث فلسطين، ورويت له كل ما رأيته فيها، وأذكر أنه قال لى وكان معنا ثلاثة أو أربعة من الأعزاء عليه لن ندخل بجيشنا حربًا رسمية فى فلسطين.. إن معركتنا هى أولًا مع الإنجليز.. لقد كنت فى مجلس الأمن، وقلت للإنجليز اخرجوا من بلادنا أيها القراصنة، وقلت للعالم إن الجيش المصرى قادر على ملء الفراغ فى قناة السويس، فكيف أعرض هذا الجيش الذى هو كل حجتى فى نهاية ملء الفراغ فى القناة لأية تجربة، حتى ولو كان احتمال الخطر فيها ضئيلًا ”.
دعم المتطوعين بالسلاح
يضيف هيكل: “كنت قابلت الفريق محمد حيدر، وزير الحربية وقتها، وكنت ما زلت أعتقد أنه رجل طيب نظيف، ورويت له أيضًا ما رأيت فى فلسطين، وقال وهو يخبط بيده على مكتبه: أبدًا لن ندخل حربًا رسمية، هل نحن مجانين، لقد فتحت باب التطوع بين الضباط والجنود، وسأعطى هؤلاء المتطوعين السلاح الذى يريدونه”.
وواصل: “ولما عدت إلى فلسطين بعد هذه الأيام التى قضيتها فى القاهرة، كنت كما قلت واثقًا على الأقل من موقف مصر”.
كل شئ إلا التدخل المسلح
على المستوى العربي، يقول هيكل: “سألنى الملك عبدالله ملك الأردن الهاشمي، بعد عودتى من القاهرة: هل قررت مصر دخول الحرب؟ واقتربت من الملك أهمس فى أذنه بما أعتقد، وبأن مصر على استعداد لكل شىء، إلا التدخل الرسمى المسلح، وسُئلت أيضًا من عدد كبير جدًا من أهل فلسطين فى نفس الموضوع.
ويؤكد هيكل: “كانت إجابتى صريحة مستندة إلى ما كنت أعلمه، وما كنت أتصور فى ذلك الوقت أنه الخط المرسوم”.
رهان مع الوكالة اليهودية
أكمل هيكل: “بل أذكر أيضًا أننى عقدت رهانًا غريبًا فى هذا الموضوع، رهانًا قيمته 10 جنيهات لم أدفعها، وكنت قد سعيت لكى ألتقى ببعض قادة الوكالة اليهودية، وكانوا وقتها هم النواة لحكومة إسرائيل، وكنت قد قابلت بن جوريون، رئيس وزراء إسرائيل فيما بعد، ثم عاد هؤلاء المراسلون، ورتبوا لى موعدًا مع ساسون الذى كان وقتها سكرتيرًا شرفيًا للوكالة اليهودية، وقال لى ساسون: إن الجيش المصرى سوف يدخل حربًا رسمية هززت رأسى، وقلت له: لا أعرف، قال ساسون: سوف يضحك الإنجليز عليكم، وسوف يقدمون لكم كل إغراء لتدخلوا، ثم ينصبون لكم فخًا، إنهم لا يريدون جيشكم هذا الذى تدعون به القدرة على ملء الفراغ فى قناة السويس، ثم مضى ساسون يقول: هل تراهن بعشرة جنيهات؟ قلت: قبلت الرهان”.
خسارة الرهان
بعد أشهر من اندلاع الحرب، يحكي هيكل: “التقيت بساسون بعد ذلك فى باريس فى شهر سبتمبر، وكانت الحرب قد بدأت فعلًا والهدنة قد فرضت، وفى مجلس الأمن كانت مناقشات حول الهدنة وظروف الاعتداء عليها، ووجدت ساسون فجأة أمام قاعة اجتماع اللجنة السياسية فى قصر شايو، يقول لى: هل رأيت.. ألا تريد دفع الرهان؟”.
يختتم هيكل: “بعدها فى شهر فبراير 1949، وفى إسطنبول فى مطعم عبدالله المشهور، وكان ساسون قد عين سفيرًا لإسرائيل فى تركيا، أقبل أحد خدم المطعم يحمل لى ورقة صغيرة كتب عليها: ألا تريد أن تدفع رهانك؟ وقال لى الخادم: السيد الجالس هناك بعث بهذه الورقة إليك، ورفعت رأسى فى الاتجاه الذى أشار إليه، ووجدت ساسون بنفسه ينظر إلى مبتسما”.