نبيل فهمي يكتب: رفض إسرائيل للهوية الفلسطينية هو المعضلة!
أثارت الأحداث البربرية الإسرائيلية فى غزة منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023 غضب الغالبية العظمى من الرأى العام العالمى حتى بين الدول الصديقة لتل أبيب والتى كانت دانت تنفيذ عمليات حركة «حماس» فى السابع من أكتوبر ضد أهداف إسرائيلية وخطف ما يزيد على ٢٠٠ من الرهائن.
وكان هناك شبه إجماع دولى رافض للتهجير القسرى للمواطنين داخل القطاع أو عبر الحدود إلى دول أخرى، كما دين استهداف المرافق الصحية للفلسطينيين وهدم أكثر من ٥٠ فى المئة من البنية التحتية، وهناك معارضة واسعة لما أعلنته إسرائيل فى شأن عزمها إعادة الاستيلاء على الأراضى فى القطاع بعد انتهاء العمليات العسكرية لتأمين إسرائيل من أى أخطار أمنية مستقبلية.
وأعادت الدول العربية فى قمة الرياض وكثير من الدول الغربية المطالبة بالتركيز مرة أخرى على أهمية، بل ضرورة حل النزاع الفلسطينى ــ الإسرائيلى بإقامة دولتين، إحداهما إسرائيل والأخيرة فلسطين. وخصصت الدول العربية الإشارة إلى أهمية أن تكون الحدود على أساس واقع ١٩٦٧ وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، والكل يعلم أن هذا يتطلب أيضا الاتفاق على ترتيبات خاصة لقضايا أخرى عدة مثل عودة اللاجئين أو التعويض والمياه والترتيبات الأمنية وغير ذلك.
وكان لافتا للغاية انتشار الأخبار والتسريبات والتصريحات بأن عددا من الدول الغربية تعتزم الإعلان من جانب واحد عن اعترافها بدولة فلسطينية تحت الاحتلال، مع اختلاف الصيغ المرتبطة بذلك وغموضها أحيانا، وهو تحول مهم يضيف إلى مواقف قوية لدول غربية أخرى تؤكد حق الفلسطينيين فى تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم من بينها إيرلندا والسويد.
وأثار ذلك إسرائيل وجعلها تنشط جهودها الدبلوماسية لدى الدول الصديقة، فصدر تصريح مقتضب من السفير الأمريكى لدى إسرائيل لا ينفى عزم بلاده القيام بمثل هذه الخطوة، وإنما ينوه بعدم وجود نية حالية لاتخاذ الخطوة بصورة أحادية.
وجاء رد الفعل الإسرائيلى واضحا وكاشفا بصدور قرار من مجلس الوزراء الإسرائيلى وتأكيده من غالبية الكنيست رفض أى محاولة من المجتمع الدولى لفرض حل الدولتين، أى إقامة دولة فلسطينية إلى جوار دولة إسرائيل.
وقد يدفع بعض المتفائلين، أو بعض المضللين سيئى النية بأن إسرائيل رفضت فرض الأمر عليها، ولم ترفض التوصل إلى حل الدولتين من خلال التفاوض، لكن الاثنين بعيدان كل البعد من الحقيقة لأن الموقف الإسرائيلى أعمق وأصعب من ذلك بكثير.
ويدفع بعض المحللين بما فى ذلك بالعالم العربى بأن حل الدولتين لم يعُد بديلا متاحا فى ضوء التوجه السياسى الإسرائيلى نحو أقصى اليمين، وانكماش أو حتى اختفاء التيار اليسارى والمفترض أنه يؤيد الحل السلمى ويدعو إلى التفاوض مع الجانب الفلسطينى.
ويشيرون وعن حق إلى أن التوغل والانتشار الاستيطانى الإسرائيلى وصل إلى ما يتجاوز ٧٥٠ ألف مستوطن فى الضفة الغربية لنهر الأردن، وأن ذلك سيجعل من المستحيل ترجمة حلم الدولتين إلى واقع، لذا فمن الأفضل والأكثر واقعية التركيز على ما يسمى حل «الدولة الواحدة»، حتى إذا استغرق تحقيق ذلك بعض الوقت، وهم فى ذلك يشيرون أيضا إلى الانشقاق الفلسطينى ــ الفلسطينى الذى يضعف من قدراتهم على ترجيح الدفة والتأثير فى الساحة الإسرائيلية أو الشرق أوسطية أو الدولية.
وأقر وأتفق أن احتمالات تحقيق حل الدولتين أصبحت بالغة الصعوبة، خصوصا فى الأمد القصير، وإن كنت أعتقد بأن السبب فى ذلك ليس اتساع المستوطنات الإسرائيلية فحسب، بل هناك سبب أعمق من ذلك بكثير يصعب من تحقيق حلم الدولتين، ويجعل من المستحيل التوافق حول حل الدولة الواحدة التى يعيش فيها الفلسطينيون والإسرائيليين فى دولة واحدة بحقوق متساوية، ألا وهو أن إسرائيل لا ترفض حل الدولتين فحسب، بل ترفض حتى القبول بالهوية الفلسطينية، وتعتبر ذلك خطرا على الأمن القومى للدولة الإسرائيلية اليهودية، وتعمل بمختلف السبل على تفتيت تلك الهوية وتخفيفها وتمييعها.
ويتذكر المحللون والمؤرخون تصريحات رئيسة وزراء إسرائيل من 1969 حتى 1974 جولدا مائير التى نفت ضمنها وجود شعب فلسطينى، والتاريخ الحديث ملىء بالدلائل على قيام إسرائيل بجهود عدة للتفرقة بين التيارات الفلسطينية، والتقسيم بينهم على أساس أيديولوجى وفكرى تمييعا للهوية الوطنية الفلسطينية وللادعاء بغياب شريك فلسطينى حقيقى فى عملية السلام.
وأتذكر خلال متابعتنا لمفاوضات أوسلو الفلسطينيةــ الإسرائيلية أن نقطة التحول الإيجابية الحاسمة فى الموقف المصرى من هذه المفاوضات كانت تضمين بعض الصياغات الإسرائيلية فى مراحل متقدمة من التفاوض تعبير «الشعب الفلسطينى»، وهى خطوة مهمة فى التوجه السليم لم تسمح الظروف باستكمالها مع عدم ترجمة الاتفاق إلى واقع على الأرض، وانتهاء الصياغة النهائية للاتفاق حينذاك باعتراف منظمة التحرير بدولة إسرائيل مقابل الاعتراف فقط بالمنظمة كممثل وحيد للشعب الفلسطينى باعتبارها المفاوض المباشر حينذاك.
وما زالت لدى قناعة راسخة بأن القلق الإسرائيلى يتجاوز شكل الدولة الفلسطينية أو حتى أدواتها، فينصب القلق على الهوية الفلسطينية ذاتها، لذا تعمل إسرائيل بتواصل واستمرارية على تمييع وتفتيت أى جذور للهوية الفلسطينية، خصوصا بعدما ثبت لأكثر من 70 عاما تحت الاحتلال أن الشعب الفلسطينى متمسك بهويته وشخصيته الوطنية على رغم كل الصعوبات والعقبات والممارسات غير الإنسانية.
وقد ترجم ذلك منذ التسعينيات من القرن الماضى فى المطالبة المتكررة بالاعتراف بيهودية دولة إسرائيل وليس بإسرائيل فقط، ووجدناه فى محاولات عدة لتهويد الساحات المجاورة لقبة الصخرة فى القدس الشرقية وتفريغها من سكانها الفلسطينيين، وهو أيضا الدافع الرئيس فى التوسع الاستيطانى الإسرائيلى بالضفة الغربية التى تشهد زيادة فى عدد السكان الفلسطينيين تتجاوز معدلات الزيادة فى السكان اليهود.
لذا نتابع الجهود الإسرائيلية لتشجيع الهجرة الفلسطينية من الأراضى المحتلة، وفى التهجير القسرى للفلسطينيين من بيوتهم وهدم البنية التحتية الإنسانية للقضاء على سبل الحياة، وبعرض مساعدات لتحفيز الفلسطينيين على الهجرة، وتشجيع الدول المجاورة أو غيرها على استيعاب الفلسطينيين لاعتبارات إنسانية أو اقتصادية، بل وصلت الحال إلى أن يعلن وزراء الحكومة الإسرائيلية الحالية استعدادهم لتوفير التمويل لتهجير الفلسطينيين إلى الخارج.
وكل هذه المؤشرات والدلائل تؤكد من دون أدنى شك أن إسرائيل ترى فى الهوية الفلسطينية الخطر الأكبر والأشد على مصالحها وطموحاتها، وأن النزاع العربى ــ الإسرائيلى هو نزاع حول الهوية والأرض مع استحالة جمع الشعبين الإسرائيلى والفلسطينى فى دولة واحدة تحت هوية مشتركة.
فلا خيار غير حل الدولتين على صعوبته وبديل الدولة الواحدة حتى على المدى المتوسط ليس حلا، بل واقعا يعكس ويقر بأن النزاع سيمتد ويطول على حساب الشعبين وبما يمس أمن واستقرار الشرق الأوسط بأكمله.