في منزل الوحي (3).. كيف تدرج تحريم الخمر على المسلمين؟
اختص الله شهر رمضان المبارك بفضائل عدة دون غيره، من شهور السنة؛ حيث شهد ابتداء نزول القرآن الكريم على النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في ليلة القدر جملة واحدة؛ إيذانا ببدء بعثة النبي وتكليفه بالرسالة.
وبعد نزول القرآن جملة واحدة في ليلة القدر، تفرّق نزول آياته بعد ذلك على امتداد سنوات البعثة النبوية بين مكة المكرمة والمدينة المنورة، وارتبط نزول كل آية قرآنية بفرض حكم، أو تفسير أمر أو العبر والعظات من تاريخ الأنبياء والأمم السابقة.
* الحلقة الثالثة:
تحدثنا في الحلقة السابقة عن الحالات والشروط التي رخّص لعباده بها الإفطار، كما ورد في الآية الكريمة من سورة البقرة: “فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ”.
وتأكد من الآية الكريمة رحمة الإسلام ومراعاته لطبيعة للنفس البشرية، ونواصل في حلقة اليوم تناول ذلك المعنى والذي تجسّد في تدرج تحريم الخمر على المسلمين.
* عادة متأصلة
كان شرب الخمر في الجاهلية عند العرب، عادة متأصلة فيهم، وكان يصعب على الواحد منهم ترك شربها، فقد تدرجت أحكام الخمر من الذمِّ لها، والتحذير منها، إلى التحريم القاطع والنهائي لها.
يقول الصحابي حسان بن ثابت وهو يصف حاله قبل أن يسلم: “ونشربها فتتركنا ملوكاً وأسداً لا ينهنهنا اللقاء ولكن أقروا عليها في أول الأمر وفي أول الإسلام لأنهم قد ألفوها، ويصعب عليهم كثيراً أن يتخلوا عنها، وفقا لكتاب شرح عمدة الأحكام لابن جبري.
* إثمهما أكبر من نفعهما
وبيّن كتاب عمدة الأحكام، أن أول ما نزل فيها قول الله تعالى في سورة البقرة: “يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَهما”.
لذلك استمر أناس يشربونها وقالوا: ما دام أن فيها منافع فإنا سنشربها، فنزلت الآية الثانية في سورة النساء وهي قول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ”، وذلك لأن بعض الصحابة صلى وهو سكران، فخلط في صلاته، وخلط في قراءته، فكان ذلك سبباً للنهي عن أن يأتيها في حالة السكر، ولما نزلت هذه الآية دعى أيضاً عمر فتليت عليه، فقال: (اللهم بين لنا بياناً شافياً) ، ولما نزلت هذه الآية تركها خلق كثير، وبقي أناس يشربونها في الأوقات الطويلة، أي: يشربونها بعد الفجر بحيث يصحوا قبل الظهر، أو يشربونها بعد العشاء بحيث يصحوا قبل الفجر، فأما الأوقات الضيقة فلا يشربونها؛ لأن الله تعالى نهاهم أن يقربوا الصلاة وهم سكارى، وهذا نوع تقديم بين يدي تحريمها.
ولما نزلت آية النساء وفيها النهي عن قربان الصلاة حالة السكر تاب عن شربها خلق كثير؛ وذلك لأن هذا تقدمه بين يدي تحريمها، وعلموا أن في هذه مضرة، وقالوا: لا خير في شراب يمنعنا من الصلاة، لا حاجة لنا فيه، فتركوها ولو كانت مشروبة لهم من قبل ولذيذة في نفوسهم.
* عمر بن الخطاب والبيان الشافي
وعن عمرو بن شرحبيل رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (اللهمَّ بيِّنْ لنا في الخمر بياناً شافِياً، فنزلت هذه الآية التي في سورة البقرة: يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا).
قال: فدُعِى عمر رضي الله عنه فقُرِئتْ عليه فقال: اللهمَّ بيِّنْ لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في سورة النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ.
فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاةَ نادَى لا يقْرَبَنَّ الصلاة سكران، فدُعِي عمر رضي الله عنه فقُرِئَتْ عليه فقال: اللهمَّ بيِّنْ لنا في الخمرِ بياناً شافياً، فنزلت الآيةُ التي في سورة المائدَة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
فدُعِي عمرُ رضي الله عنه فقُرِئَتْ عليه فلما بلغَ: {فَهَلْ أَنْتُم مُّنْتَهُونَ} قال: فقال عمر: (انتَهَينا، انتهيْنا)، وفقا للحديث الذي رواه الإمامين أحمد والنسائي.