نبيل فهمي يكتب: رصيف بحري أمريكي في غزة فوائده ومخاطره
أعلن الرئيس الأمريكى جو بايدن خلال إلقائه خطابه الأخير للأمة أن الولايات المتحدة تعتزم بناء رصيف عائم فى البحر المتوسط، لتسهيل توريد مساعدات إنسانية إلى غزة، وتم التوضيح أن المشروع قد يدخل حيز النفاذ الأولى خلال ستين يوما وأن استكماله سيستغرق أربعة أشهر تقريبا.
وأثار الإعلان ردود فعل وتفسيرات سياسية عديدة، فيما بين أنها خطوة خبيثة لتمكين الولايات المتحدة من التواجد والانتشار فى شرق البحر المتوسط، ورغم صعوبة استبعاد هذا التفسير كلية مع استمرار القلق الأمريكى من إيران والتواجد الروسى فى سوريا، فأعتقد أن التواجد الأمريكى العسكرى قائم حاليا بالفعل فى المشرق بما فى ذلك بسوريا ويحقق لها أغراضها دون تعريضها لمخاطر إضافية غير محسوبة.
ومن الواضح أن الاقتراح الأمريكى يتماشى مع رغبة إسرائيلية فى غلق المنافذ المختلفة إلى غزة عدا تلك التى تتحكم فيها، بحيث يكون لها السيطرة الكاملة على كل مداخل ومخارج القطاع، وهناك مؤشرات أن الاقتراح ذاته كان ضمن أفكار إسرائيلية نقلت إلى الجانب الأمريكى منذ أسابيع فى مشاورات بينهم حول مرحلة ما بعد العمليات العسكرية فى غزة، وخاصة مع سابق شكواها من التهريب من سيناء عبر الأنفاق، ورغبتها الآن فى السيطرة على ممر فيلادلفيا الموازى للحدود المصرية.
وهناك تقديرات أن المبادرة الأمريكية تحقق رغبة إسرائيلية فى تخفيف أى دور لمصر على مداخل غزة، والضغط على مصر للحد من دورها فى النزاع العربى الإسرائيلى عامة، خاصة مع دعمها لحل الدولتين؛ حيث إن غيابها يحد من فاعلية أى تحرك فلسطينى أيضا، وارتباطا بذلك هناك من يرى أن الولايات المتحدة لا تعارض تأمين مداخل ومخارج غزة ووضعها كاملة أو أغلبها تحت السيطرة الإسرائيلية مع الاتفاق على ترتيبات معينة، من منطلق أن النزاع فى القطاع سيمتد، وأن استعداد العالم العربى أو أطراف دولية للإسهام فى إدارة غزة لن يتحقق قريبا، لذا من الأفضل تمكين إسرائيل من السيطرة أمنيا طالما سمحت بإدخال المساعدات الإنسانية، ومن منطلق أن هذه الترتيبات قد تخفف كذلك من التوترات الإسرائيلية المصرية على الحدود وتحافظ على اتفاق السلام المصرى الإسرائيلى، وهو هدف أمريكى استراتيجى.
وبصرف النظر عن الدوافع الحقيقية من هذا الاقتراح مما لا شك فيه أن الاقتراح يحظى بموافقة الجانبين الإسرائيلية والأمريكى، حتى إذا لم تكن أهدافهم متطابقة، لأنه يوفر مدخلا آمنا للمساعدات الإنسانية تحت غطاء أمريكى وإنما عبر السيطرة الإسرائيلية؛ حيث أكد مسئولون إمريكيون فى تصريحاتهم أن المبادرة لا تشمل تواجدا عسكريا أمريكيا إضافيا فى غزة، ومن ثم يبرز الدور الإنسانى بغية تحسين صورتها أمام الرأى العام العالمى والأمريكى، فى مرحلة يتعرض فيها الرئيس بايدن لانتقادات شديدة من الأمريكيين من أصل عربى والتيار التقدمى فى الحزب الديمقراطى.
ومما يؤكد سابق موافقة الطرفين على هذه المبادرة ووجود اتفاقات مسبقة بشأنها أنه فى أعقاب إعلان بايدن عن هذا المشروع شرعت الولايات المتحدة سريعا فى تكليف سفنها العسكرية والمتخصصة فى مثل هذه المشروعات للتحرك والانتقال نحو موقع الرصيف المستهدف إنشائه، كما ليس مصادفة أن الرئيس الأمريكى أعلن هذه الخطوة أيام قليلة بعد استقباله لوزير الدفاع الإسرائيلى جانتز فى واشنطن، مما يعكس أن وزارة الدفاع الإسرائيلية موافقة عليها.
وأهمية هذه الملاحظة من شقين، أولهما أن إسرائيل لم تفاجأ بالمشروع الأمريكى، مما يرفع عن بايدن أى حرج أو انتقادات من مؤيدى إسرائيل فى الولايات المتحدة، وثانيهما أن التحرك الأمريكى فى هذا المجال لا يعكس تفاهمات أو تقاربا مع نتنياهو، وكان حضور وزير الدفاع الإسرائيلى إلى الولايات المتحدة دون تكليف أو إذن من رئيس الوزراء، والذى لم توجه له الدعوة لزيارة العاصمة الأمريكية منذ تولى بايدن الرئاسة عام ٢٠٠١، وهى رسالة أمريكية جديدة تؤكد فيها دعمها لإسرائيل مع الابتعاد عن الضغط على نتنياهو، وتزامن مع الاقتراح تسريبات إعلامية منسوبة للرئيس الأمريكى مباشرة أنه أبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلى أنهم على مشارف وقفة صريحة وفاصلة معه شخصيا، وتلى ذلك تراشق إعلامى مباشر بين رئيس وزراء إسرائيل والرئيس الأمريكى، ولم يتردد فيه نتنياهو عن التصريح علنا وبشكل مباشر أن الرئيس الأمريكى يخطئ فى قراءته وتقديرات الموقف فيما يتعلق بأهمية وضرورة بدء عمليات عسكرية إسرائيلية واسعة فى جنوب قطاع غزة وفى منطقة رفح تحديدا. ثم أعلنت إسرائيل منذ أيام قليلة أن رئيس الوزراء وافق على خطة العمليات العسكرية فى رفح، وجاء ذلك بالتوازى مع إيفاد إسرائيل وفدا إلى قطر لمواصلة التفاوض حول اتفاق الإفراج عن الرهائن.
على المستوى الشخصى استقبلت إعلان الرئيس الأمريكى ببناء الرصيف بمزيج من الترحيب الفاتر والاستغراب القلق فى آن واحد!
ومن ناحية أشجع أى جهد إضافى لتخفيف معاناة الشعب الفلسطينى فى غزة، وأعتقد أنه مع تشغيل الرصيف لن تستطيع إسرائيل إطالة الترتيبات الأمنية المعرقلة لإدخال المساعدات عبر هذا الرصيف بالذات، هذا أفضل وأقوى إيجابياته. وإنما كان ترحيبيا فاترا مصحوبا بالاستغراب لأن شعب غزة يتعرض الآن للمجاعات وظروف غير إنسانية قاسية، والحديث عن مبادرة طاقتها عمليا أقل بكثير من احتياجات مواطنى القطاع وتستغرق شهورا لتنفيذها لا يلبى الطلب أو الاحتياجات الإنسانية العاجلة.
وشعرت بالقلق من المبادرة خشية أن يركز الجانب الأمريكى على هذا المشروع حصريا، بدلا من زيادة الضغط على إسرائيل لتخفيف معوقاتها للمساعدات الإنسانية من معابر مختلفة خاصة رفح، ولتأمين سماح إسرائيل بالعمل الآمن للجمعيات الخيرية والمنظمات الدولية العاملة فى إيصال المساعدات إلى مختلف المناطق بالقطاع، وتوزيعها على المواطنين دون مخاطر على حياة العاملين أو المواطنين، لأن مشاكل التوزيع الأمن صعبة ومتعددة وخطيرة، وأعلنت منظمات إنسانية عديدة أنها جمدت أو أوقفت عملها بالقطاع لتعذر تأمين العاملين فى المجال الإنسانى.
ومع ترحيبى بأى إسهام إنسانى يخفف من معاناة الشعب الفلسطينى بالقطاع، أشعر أيضا بمزيد من القلق إن التزمت الإسرائيلى عامة، وبما يتجاوز رئيس الوزراء وبعض حلفائه من أقصى اليمين، والضعف المواءمات السياسية الدولية للمجتمع الدولى خاصة بين أصدقاء إسرائيل، تجرفنا نحو التعامل الإنسانى مع قضية الحرب على غزة وإغفال العنصر العسكرى والسياسى الجوهرى المرتبط باحتلال إسرائيل للقطاع والضفة الغربية.
وأخشى من التركيز على المسار الإنسانى والقبول الضمنى باستمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية أو الاحتلال الإسرائيلى للقطاع مرة أخرى، وعلى حماس وقطر ومصر أخذ ذلك فى الاعتبار فى مفاوضات الإفراج عن الرهائن المحتجزين ووقف إطلاق النار، كما على المجموعة العربية المصغرة التى استضافتها المملكة السعودية أخيرا لمتابعة الموقف وتشمل مصر والأردن وفلسطين والإمارات وقطر والتى تركز على المرحلة القادمة بعد وقف إطلاق النار فى اتصالاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى والأمم المتحدة، وعلى الأطراف العربية جميعا إعطاء الأهمية القصوى لإنهاء معاناة الشعب الفلسطينى بغزة، مع عدم الوقوع فى فخ تثبيت الأمر الواقع، والتمسك بأن إنهاء دائرة العنف والعنف المضاد لا يتحقق إلا بإنهاء الاحتلال الإسرائيلى وتمكين الفلسطينيين من ممارسة حقوقهم الوطنية المشروعة.