مصطفى الفقي يكتب: ثورات الربيع العربي والقضية الفلسطينية
الصخب الزائد الذى صاحبها غطى على معاناة ذلك الشعب المناضل سعيا لاسترداد أرضه.
يثور الجدل من حين لآخر بين خبراء السياسة المعاصرة خصوصا فى دول الشرق الأوسط حول جدوى أحداث الربيع العربى من حيث الأسباب التى أدت إليها والملابسات التى ارتبطت بها والنتائج التى تمخضت عنها، ويبقى السؤال الكبير حول مجمل تلك الثورات موجزا، وللإجابة عن السؤال الكبير هل كانت تلك الأحداث نعمة أم نقمة؟ خصوصا أننا ننظر إليها الآن من بعيد بعد سنوات من وقوعها وتطورات جرت بعدها وانتكاسات لحقت بها على نحو أدى إلى انقسام الآراء بشكل حاد بين مؤيد وداعم لها وبين رافض ومعترض عليها، لذلك يحسن مناقشة تلك الأحداث الكاشفة والمنشأة فى وقت واحد للتعرف إلى ملامح المستقبل فى ضوء الماضى والحاضر معا ويمكن التعرض لملامح تلك الأحداث من خلال الملاحظات التالية:
أولا: كان العالم العربى هادئا إلى حد الركود متعايشا مع أوضاعه التى لم تكن فى أفضل أحوالها حيث استقرت النظم فى أقطارها على النحو التى هى عليه منذ سنوات، بن على فى تونس ومبارك فى مصر والقذافى فى ليبيا وبشار الأسد فى سوريا وعلى عبدالله صالح فى اليمن، وكل يغنى على ليلاه فى ظل تسريبات قوية عن مخططات أمريكية لتغيير شكل المنطقة بسبب الأطروحات التى جاءت بها إدارة أوباما ووزيرة خارجيته هيلارى كلينتون، حيث بدا واضحا الانحياز الأمريكى للمشروع الإسلامى الذى يقوم على استعادة مظاهر الدولة العثمانية فى المنطقة العربية بالتركيز على تركيا ومصر، حيث تكون الأولى هى مركز الحكم والثانية هى مركز الشرعية المستمدة من تاريخ جماعة الإخوان المسلمين، وواقع الأمر أن ذلك المشروع كان مستترا وهو الذى تم إجهاضه بعد فترة حكم الإخوان عام 2013 والتحولات الجذرية التى تمت بعد ذلك.
ثانيا: عبر كثيرون عن ملاحظة واضحة وهى أن أحداث الربيع العربى تفجرت فى أقطار ذات نظم غير وراثية ولو من حيث الشكل فقط، إنما النظم الملكية فقد ظلت بمنأى عن لهيب تلك الأحداث وانتشارها وظلت مستقرة نسبيا على رغم تنامى المد الإسلامى فى بعضها ولكن بالطرق السلمية مثلما حدث فى الكويت والمغرب، أى إن المنطقة العربية قد شهدت تطورا نوعيا لم يكن مألوفا من قبل بتفجر الاضطرابات الثورية والانتفاضات الشعبية فى معظم العواصم العربية باستثناء الملكيات التى ظلت على استقرارها، بخاصة أن الأوضاع الاقتصادية فيها ساعدت على الابتعاد عن الانتفاضات المفاجئة أو الاضطرابات الشاملة.
ثالثا: فى تونس عندما أحرق (بوعزيزى) نفسه احتجاجا على التفاوت فى المعاملة وازدواجية المعايير والهوة الطبقية الواسعة، كانت هى الشرارة الأولى التى اندلعت لكى تنتشر بالعدوى المباشرة فى الدول العربية الأخرى بدءا بمصر مرورا بسوريا وليبيا وصولا إلى اليمن على نحو أدى إلى هبوب رياح عاتية اجتاحت العالم العربى واقتلعت بعض نظمه التى جثمت على صدر السلطة لما يزيد على 30 عاما، وعندما صاح القذافى صيحته الشهيرة من أنتم؟ كان صداها يتردد فى كل العواصم العربية إنذارا بالتحول الجذرى فى الأوضاع فى دول المنطقة، وقد قفز الإخوان المسلمون إلى مقاعد السلطة فى مصر ووصل أحدهم إلى سدة الرئاسة بانتخابات سريعة، حيث لم تكن القوى السياسية الأخرى ناضجة بالقدر الذى يؤهلها للمشاركة فى الحكم وتسيير دفع الأمور إلى أن خرج ملايين المصريين رافضين استمرار حكم الإخوان ومطالبين بالتغيير حتى صدرت قرارات 3 يوليو عام 2013 التى أنهت دولة المرشد فى مصر وفتحت الباب لتغيرات كبيرة أسهمت فيها المؤسسة العسكرية بدور وطنى حتى استقرت الأوضاع فى الشارع المصرى بشكل ملحوظ.
رابعا: لا بد أن نعترف أن أحداث الربيع العربى كانت تنقصها حزمة ضخمة من البرامج الإصلاحية التى تحيل العنف إلى فعل ثورى ينحاز للجماهير ويدافع عن حقوق الطبقات الأكثر عددا والأشد فقرا، ولكن ربما نقول الآن بأن الرياح لم تأتِ بما تشتهى السفن وظلت الأوضاع فى معظمها تتأرجح بين التوتر والقلق وبين الهدوء والركود، على رغم كثير من الإنجازات التى نعترف بها فى بعض تلك الأقطار العربية إلا أننا نلاحظ ديمومة بعض المشكلات المزمنة فى المنطقة العربية وفى مقدمتها الصراع العربى ــ الإسرائيلى ثم الوضع فى سوريا ثم الحال فى اليمن، فالرواية لم تتم فصولها ولم ينزل الستار عليها كما ظن البعض.
خامسا: دعنا نعترف صراحة بأن الصخب الزائد الذى صاحب أحداث الربيع العربى قد غطى إلى حد كبير على صوت القضية الفلسطينية ومعاناة ذلك الشعب المناضل سعيا لاسترداد أرضه وإقامة دولته المستقلة، ومن هنا فإنه يمكن القول إن الضجيج الذى صاحب ثورات الربيع العربى قد كان خصما مما يجرى فى المنطقة لحشد الدعم للقضية العربية الأولى التى استنزفت القدرات العربية فى مجملها عبر العقود السبع الماضية أو ربما ما يزيد على ذلك، إننا نظن ــ وليس كل الظن إثما ــ أن النتيجة النهائية لأحداث الربيع العربى لم تكن فى مصلحة القضية الفلسطينية بل نقلتها من مرحلة التأييد السياسى إلى مرحلة التعاطف الإنسانى، وقد كانت تلك نقلة نوعية سلبية أدت إلى تراجع واضح للقضية الكبرى مع اختفاء لردود الفعل الدولية تجاه معاناة الفلسطينيين، فاختفت المبادرات الدولية المتصلة بمستقبل القضية كما تراجعت التفاهمات الإسرائيلية مع الفلسطينيين، حيث عمدت تل أبيب إلى قدر كبير من التجاهل ومع الضغط المتزايد على الفلسطينيين من العنف المفرط والحصار الدائم حيث كان الانفجار الكبير فى السابع من أكتوبر عام 2023.
سادسا: لقد جرت مياه كثيرة فى المنطقة وتحولات خطرة مارست فيها قوى إقليمية مختلفة أدوارا متباينة، سواء كانت تلك القوى هى إيران أو تركيا أو إسرائيل أو حتى دول القرن الإفريقى، فضلا عن المصاعب التى يواجها العراق والتمزق الذى تعانيه الدولة السورية، ناهيك بما يجرى فى اليمن ودخول جماعة أنصار الله (الحوثيين) على خط التماس مع البحر الأحمر بالتحكم فى مضيق باب المندب ومحاولة الإقلال من أهمية قناة السويس بإضافة ضربة جديدة للاقتصاد المصرى الذى يحاول أن يتعافى فى الفترة الأخيرة، لذلك فإننا نقول إن القضية الفلسطينية عموما كانت قد ضاعت فى غمار الأحداث التى جرت وأصداء الوقائع التى حصلت، وأصبحنا لا نرى حاليا إلا لغة العنف والدماء والأشلاء على امتداد خريطة المشرق العربى وجنوب الجزيرة.
سابعا: لقد كانت أحداث الربيع العربى كما قلنا كاشفة ومنشأة، فهى كاشفة للعوار الذى أصاب كثيرا من النظم فى المنطقة فهبطت تيارات سياسية وصعدت أخرى وفتحت ملفات عدة لم تكن متاحة للمواطن العربى العادى، والقياس على ذلك أيضا كانت أحداث منشأة لتيارات إصلاحية واسعة كان أبرزها ما شهدته السعودية فى السنوات الأخيرة وما تسعى إليه مصر فى الظروف الصعبة شديدة الحساسية بالغة التعقيد.
هذه قراءة فى ملف ثورات الربيع العربى التى شابها نوع من التدخل الخارجى بحيث تغطت بأردية دينية وأردية سياسية، ولكن الناتج كان يوحى بغير ذلك تماما، فلقد كان الصراع على السلطة هو العامل المشترك بين أطراف كل المؤسسات ومسارات حركتها إلى الأمام، إننا نعترف أنه إذا كانت للربيع العربى إيجابيات فهى لم تنعكس على القضية الفلسطينية بل العكس صحيح، إذ إن الذى غطى عليها هو ذلك الوشاح الكبير الذى رفع شعارات الحريات والتقدم وحقوق الإنسان، وقد ظلت كلها تكافح للظهور على السطح لإحداث تدخل نوعى فى مجريات الحياة بالشرق الأوسط.