مصطفى الفقي يكتب: مستقبل الشرق الأوسط بين التفاؤل والتشاؤم
كشفت أحداث غزة عن جوهر السياسات التى تمضى وراءها القوى الإقليمية المختلفة إن الذى يتأمل ما جرى فى الأشهر الأخيرة يدرك أن الصراع العربى – الإسرائيلى أكثر تعقيدًا وأطول عمرًا، بل وأزيد على ذلك أنه يتجاوز ما كان يشطح إليه الخيال منذ سنوات قليلة، فلقد استيقظ الشرق الأوسط فى السابع من أكتوبر 2023 على زلزال سياسى اهتزت له أركان المنطقة حين تمكنت حركة حماس من السيطرة على مفاصل الدولة العبرية لساعات عدة حتى وصلت آلة الحرب الإسرائيلية إلى مواقعها لتحصد الأرواح وتقوم بعمليات إعدام فى الشوارع لعشرات الألوف من أطفال فلسطين ونسائها وشبابها فى واحدة من أكبر المجازر فى التاريخ البشرى المعاصر.
أدى ذلك الزلزال إلى هزة كبرى لدى كل الأطراف، وامتدت تداعياته لتصل إلى الأوضاع الداخلية والسياسات الخارجية لدول المنطقة وأصبحنا أمام موقف مختلف لم نكن على دراية باحتمالاته، وفى ظنى كما قلت مرارًا إن السابع من أكتوبر 2023 على المستوى الإقليمى يشبه تداعيات الـ11 من سبتمبر عام 2011 على المستوى الدولى، لذلك فإن الحدث الكبير الذى جرى والسياسة العنصرية الاستعمارية التى مارستها إسرائيل تشير كلها إلى الأهداف الخفية للقوى الإقليمية فى المنطقة.
كشفت تلك الأحداث عن جوهر السياسات التى تمضى وراءها القوى الإقليمية المختلفة وسقطت الأقنعة عن وجوه الفرس والترك واليهود، بل وبعض الدول الأخرى فى أحشاء أفريقيا، خصوصًا فى شرقها حيث نشطت إثيوبيا لمواصلة أساليبها بالضغط على أطراف العالم العربى مستهدفة مصر بالدرجة الأولى بسبب النزاع حول السد الإثيوبى الذى تبدو فيه ملامح الكيدية أكثر مما تظهر فيه أسباب الحاجة إلى مزيد من المياه أو توليد الكهرباء فى الجانب الإثيوبى.
الذى يمعن النظر فى التطورات التى جرت فى غرب آسيا وشمال أفريقيا، وهما مركزا ثقل فى المشرق العربي، يدرك أن مصر هى الجائزة الكبرى التى يسعى البعض إلى قطف ثمارها أحيانًا أو تعويق مسيرتها أحيانًا أخرى، ولا شك أن الأحداث الأخيرة أثبتت أن أجواء الشرق الأوسط تحمل سحبًا داكنة تتجه نحو المنطقة التى عانت طويلًا وأصبح من حقها أن تستمد روح البقاء من ذاتها.
ويمكن أن نستعرض هنا بعض النتائج التى تمخضت عنها أحداث غزة وما يمكن أن تسفر عنه انعكاسًا على العالم العربى ومصائر شعوبه، وأهم تلك النتائج التى تمخضت عنها ملابسات الأحداث والظروف التى أحاطت بها هي:
أولًا: راجت فى الفترة الأخيرة أسطورة تتحدث عن خلافات جذرية بين السياستين الأميركية والإسرائيلية، وذلك فى ظنى وهم حقيقى وأكذوبة كبرى، إذ إن العلاقات بين الدولتين ذات طابع اندماجى كامل، فالدولة العبرية امتداد للولايات المتحدة الأميركية تحمى مصالحها وتحقق أهدافها، فتضرب الشرق الأوسط فى مقتل كل سنوات عدة حتى تظل السيطرة الأميركية ذات وجود مستمر تحمى فيه أمن إسرائيل بينما تحمى لها إسرائيل على الجانب الآخر المصالح الدولية المرتبطة بالولايات المتحدة الأميركية فى المنطقة، ولقد سمعت تصريحات من بعض المسؤولين فى واشنطن يقولون: لو لم تكن إسرائيل موجودة لكان علينا اختراع وجودها بسبب ما تقدمه لنا من خدمات استراتيجية وتسهيلات أمنية.
ثانيًا: إننى أدعى أن مستقبل اليمين المتطرف فى إسرائيل لم يعد واعدًا ولا مؤثرًا كما كان من قبل، نعم إن هناك قطاعًا كبيرًا من الشارع الإسرائيلى ما زال يدعم ذلك التيار المتشدد ويبارك سياساته الانفعالية التى تعيش فى أوهام الماضى وتستمد وجودها من دواع دينية وأساطير تاريخية لا سند لها ولا سلطان، ولا شك أن حكومة نتنياهو الأخيرة هى تجسيد وحشى لأفكار متطرفة، خصوصًا لدى المستوطنين، لا معنى لها ولا مبرر لوجودها سوى أنها مقدمة لتوجهات توسعية تحاول بها إسرائيل إقلاق دول الجوار، خصوصًا مصر والأردن، للتلويح بالتهجير القسرى وسياسة الانتقال إلى أجزاء أخرى من الأراضى العربية تسعى إسرائيل إلى التهامها، فهى دولة تركت نفسها لأطماع بلا حدود وعدوان استفزازى لا يتوقف وهى تسعى إلى حل القضية الفلسطينية حلًا نهائيًا على حساب أراض عربية جديدة وتدفع دائمًا إلى تصفية الثوابت والقيام بعملية اختراق لكل الجبهات الصامدة ويقع ضمن أهدافها عوامل مساعدة تهدف منها إلى تعقب إيران ومطاردة أنشطتها السياسية والعقائدية فى المنطقة، ويظل “حزب الله” مصدرًا يهدد الحدود الإسرائيلية مثلما أصبحت حركة حماس فزاعة أمام الشعب الإسرائيلى بما فى ذلك عائلات المخطوفين وأسرهم من الجانب الإسرائيلى، وهو الكارت الذى تحتفظ به حركة حماس إلى نهاية الشوط فهى إذا فقدته فسيتآكل رصيدها على نحو ملحوظ.
ثالثًا: إن أرصدة القوى الإقليمية المختلفة قد تغيرت، كما أن الموازين قد رجحت كفة بعضها على الآخر، فأنا أظن أن إيران فى حالة كمون بارد للمحافظة على وجودها ورصيدها المسلح، بينما حزب الله يتأرجح صعودًا وهبوطًا فى ردود فعل عسكرية يوميًا، لكن الأمر المؤكد هو أن إيران و«حزب الله» لا يسعيان إلى التصعيد، بينما ظهرت قوى الحوثيين بديلًا لذلك كله فأصبحت شرًا مستطيرًا على السفن العابرة فى البحر الأحمر متجهة إلى قناة السويس، وهنا ينبغى أن نتذكر أن مصر قد أصبحت خاسرًا بالقنبلة البشرية الموقوتة على حدودها الشرقية من جانب وتراجع المدخول الشهرى لقناة السويس بشكل موجع لدولة يزيد تعداد سكانها على المئة مليون وتمر بأزمات اقتصادية قد بدأت تتعافى منها لحسن الحظ.
رابعًا: إن القوى الإقليمية البارزة (التمدد الإسرائيلى والمعضلة التركية والشبكة الإيرانية) تمثل مثلثًا ينظر بشهية إلى العالم العربى ويتطلع إلى استنزافه بالطرق الاستعمارية أو الاقتصادية أو العقائدية بنفس الترتيب الذى مضينا به من إسرائيل إلى الترك ثم الفرس، ونحن مطالبون فى عالمنا العربى بأن نعيد النظر فى كثير من المسلمات التى مضينا وراءها فى العقود الأخيرة إذ إنه يتعين علينا أن نرقب بشدة ملامح المستقبل البعيد الذى يبدو قريبًا من أى وقت مضى، فلقد سقط كثير من الأقنعة الزائفة وتهاوت أفكار كثيرة من أصحاب الرؤى الظلامية، ناهيك بالتحالف مع عناصر الإرهاب الدولى التى تهدد أمن دول المنطقة واستقرارها فى عالم عربى يبدو من مغربه إلى مشرقه مهمومًا بمشكلات داخلية ومعضلات إقليمية، فالخلاف بين المغرب والجزائر كامن وصامت، وتونس تمر بمخاض وطنى لم تظهر ملامحه بعد، أما ليبيا المنقسمة على أرضها على رغم كل الجهود المبذولة من دول الجوار وأطراف أخرى للحيلولة دون اندلاع مواجهات لا مبرر لها لذلك البلد الذى غاب عن الساحة لعشرات السنين وحين عاد لم يجد ما يستحقه من خيرات دولته الكبيرة.
أما مصر فهى محصلة لجميع الصراعات والمواجهات فى المنطقة، وهى تنظر إلى السعودية حليفًا تاريخيًا، وإلى الإمارات صديقًا حاليًا وتحتفظ بعلاقات هادئة وباردة مع إسرائيل واحتمالات إيجابية مع تركيا، خصوصًا على الصعد الاقتصادية والتجارية والسياحية، أما العلاقات مع إيران فهى البعد المؤجل للمخاوف المتبادلة، إذ يخشى المصريون دائمًا من التوغل العقائدى الإيرانى وحدوده المفتوحة فى العالمين الإسلامى والعربي، أما عن السودان فحدث ولا حرج إنها مأساة تاريخية مؤلمة.
هكذا نجد أن احتمالات المستقبل تتأرجح بين التفاؤل والتشاؤم، والتى تجعلنا نردد دائمًا تعبير (المتشائل) الذى صكه الأديب الفلسطينى الراحل (إميل حبيبى) تعبيرًا عن وجود كافة الاحتمالات أمام رؤية أصحابها مهما اختلفت زوايا النظر وتباعدت الرؤى وفقًا للمصالح التى تتأرجح صعودًا وهبوطًا فى عصر سقطت فيه المبادئ وضربت فيه حقوق الإنسان فى مقتل وأصبحنا لا نرى إلا القريب منا ولا ندرك البعيد عنا مع شيوع الحرب بالوكالة فى مناطق مختلفة من إقليم الشرق الأوسط وهى حرب ساحات متنوعة تحركها إيران.
تلك محاولة للتفكير بصوت مرتفع فيما يمكن أن نصل إليه فى محطات المستقبل العربى الذى يتأرجح حقًا بين التفاؤل والتشاؤم.. رحم الله إميل حبيبي.