الفنانة والكاتبة
د. أمينة سالم – تكتب ..
حالة إجترار فريدة للاغتسال والتطهير
على خشبة مسرح الطليعة
لم يجول بخاطري عندما ذهبت لأشاهد العرض المسرحي( فريدة) بطولة النجمة الكبيرة ( عايدة فهمي ) و كتابةً وتمصير وإخراج ل ( أكرم مصطفي ) المستوحاه فكرته من خلال ( أغنية البجعة ) أو(أغنية طائر التَم) للكاتب الروسي أنطوان تشيكوف (1860–1904) والذى كتبهاعام 1887م . أننى كمتلقي بصالة العرض سوف أتماهىَ مع الشخصية المؤداه وأدخل في إيهابها وكأني أعايشها على خشبة المسرح حتى كادت أنفاسي تتوقف وأنا أتابع العظيمة (عايدة فهمى) في خطواتها ونظراتها وهمساتها ومدى صدق معايشتها لأبعاد وتفاصيل وخلجات بنية هذه الشخصية المركبة والمتعددة الوجوه لزوايا المرايا .
استطاعت عايدة فهمي بخبراتها الطويلة أن تجسد شخصية فريدة وتكسوها لحماً ودماً بالمغايرة والتباين بين لحظات القوة بنجوميتها وتألقها؛ وبين لحظات ضعفها وحالتها البائسة حين داهمتها السنين وأكل الدهر من عمرها وولىً ؛ فاعترتها التجاعيد والهزال وانحنائة الجسد ؛ وتبدلت ملامحها للبؤس والشقاء ؛ فكنت أشاهدها وأنا انزف معها من روحي حين تنزف وأسخر من نفسي حين تسخر هى بالضحك من نفسها حتى البكاء .
حالة من النزيف والاجترار تعيدها عايدة لحياة فريدة في ليلة مسرحية غناء ؛ لتذكرنا بلحظات مجد زال عنها اليوم كان بالأمس تاجاً يعتريه الشموخ والكبرياء ؛ بعدما طوى صفحات حياتها العجز؛ مما اضطرها على الإجبار والترحال والانزواء وحيدة لابنت لها ولا ولد . غير أنها تقتات من الآلم والحرمان لتثير فينا الشفقة كحصان في السباق كان بالأمس جامح ؛ فلما ذبلت أيامه حق قتله فحرم من الحياة .
والقتل لشخصية فريدة هنا إمتثل في قتلها معنوياً ؛ متجسداً في حالة النفي الاضطرارى وحصيلة من الجحود والاستبعاد. كونها كانت نجمة إنحجبت عنها الأضواء ؛ فلما استوحشها الحنين للوقوف على خشبة المسرح ذهبت اليه لتحتسي منه نبض الحياة ؛ فما تشربه من خمر لا يسكر.. بل يزيدها إنهزاما للروح وخواء. عندما تتسآل أمام المرآه ( هي خلصت خلاص ..يعنى أمشي ..طب ليه بالسرعة دي .. يعنى أمشى ..طيب أنا هامشي..هامشي )..
اختار المخرج عايدة فهمى هذه العملاقة الكبيرة فكان موفق باختياره لما تملكه عايدة من أدوات ممثلة من الطراز الرفيع ؛ وكونها في مرحلة تجيد هذه النوعية من الأدوار؛ فكانت بمثابة لسان حال كثيرات من النجمات سواء بالوطن العربي أو بالعالم الغربي ؛ حينما يموج بداخلهن العديد من التساؤلات..؟ فبينما هن في قمة العطاء لا يشعرن بغدر الزمان وما يخبئه الغد بعد انسدال الستارعليهن كمشاهير أجبرن على انحسار الأضواء..؟ وماذا بعد أن ينفض من حولهن الطالح و أصحاب المصالح ؛ أو المتشدقين بالحب أوالمغرضين بالتقرب من التبع بالأسحار.؟ تساؤلات مؤلمة ؛ تثير ثورة وصراع نفسي لمدى كيفية التعامل مع هذا القادم الخفي بتقلباتة الزمنية المقيته ؛ و عدم الاستيعاب للحظة الفناء والتلاشي..
هذا القادم الذي يملئ كل فريدة حيرة حينما ترى حياتها يقتاتها الفراغ الرحب ويسلبها أيامها الماضية المملؤة بالصخب وعنفوان الصبا ؛ بينما فجأة تنحسر الأضواء ويدفعك العالم المحيط البغيض دفعاً نحو التهميش والانكسار وأنت من كنت العتيد العنيد .
هكذا نسجت دراما شخصية فريدة بأحبار من ذهب؛ نسجها الكاتب والمخرج أكرم مصطفى فكانت هى محور الفعل الأساسي للحدث المسرحي الذي انطلقت من خلالها دراما العرض؛ لتتوالد من رحمها شخصيات متعددة للاجترار من أجل الاغتسال والتطهير.
شخصيات لأنماط مسرحية عربية وعالمية عايشتها عبر تجاربها كممثلة في الماضي فكانت ( الليدي ماكبث ) بكل شرورها ( ميديا ) المعروفة بدمويتها ؛ المرأة المقهورة والمغلوبة على أمرها .
فالمشاعر الإنسانية في شتى الأجناس البشرية واحدة ، فلا فرق بين الأبيض والأسود؛ عربي كان أو غربي ؛ فالجميع على حد سواء خلقهم الله بنفس خصائص المشاعر دون مغايرة غير في مستويات الحب أو الكره والبغض ؛ ومن ثمة كانت لغة الأداب العالمية والتى لا تنفصل عن غيرها من الأداب الأخرى رغم اختلاف الهويات وتباعد الحدود ؛ مما يجعلنا جميعا نشعر ونحس بالآخر ؛ أيا ما كان عرقه أو لونه . ومن ثمة استقى أكرم مصطفى وميض من مشاعر انسانية من الأدب العالمي ودمجها بهويته وثقافتة المصرية والعربية ليصبح المنتوج ؛ هو مزيج عديد من الثقافات كان من بينهم كاتب من أهم الكتاب في نهايات القرت التاسع عشر و بدايات القرن العشرين هو أنطوان تشيكوف .
اتخذ المخرج لرؤياه مساحات واسعة للاتصال والتواصل وتلك العلاقة الحميمية بين الخشبة والمتلقي والتى نسج من خلالها تيمة لأنماط شخصيات نسوية عالمية ومعاصرة ؛ ووضع لها الأساس من ضلع ديودراما النص المسرحي الأصلي ( أغنية البجعة ) لتشيكوف؛ ثم غير وحذف وأضاف ؛ غير أنه بقىَ على جوهر فكرة النص الأصلي فقط ؛ فبينما تشيكوف كتب النص من نمطين من الرجال أسماهم ( فاسيلي فاسليفيتش )؛ والأخر صديقه الملقن العجوز( سلفيتلوفيدروف)؛ كتب في المقابل أكرم نمط واحد للمرأة اسماها ( فريدة ) بينما شخصية ( إلهام ) جاءت عبر صوت للمذياع كنوع من صوت الضمير الغائب الحاضر.
تضافرت الأهداف في رسالة المخرج المسرحي أكرم مصطفى مع ما ارتكزت علية أعمال تشيكوف المسرحية والتى بلغ عددها تقريبا سبعة عشر نصاً في بعدها الجدلي حول القيم الإنسانية بغض النظر عن اختلاف المتغيرات التاريخية والجغرافية التى تنفى نسبية أو خصوصية تلك القيم ووضعيتها دون الأخرى ؛ وذلك لإبراز مركبات النقص الوجودي الإنساني من خلال العديد من التجارب الحياتية التى عاشها أنطوان تشيكوف ؛ فتكونت من خلالها أيديولوجيته ؛ والتى تمثلت في حياة البؤس والقهر والفقر والمرض والتسلط الأبوي ؛ واكتملت هذه المنظومة بتجاربة الخاصة عندما كان طبيباً يعالج الضعفاء من الفقراء .
بقى أن لا أغفل أن الديكور والإضاءة للمهندس عمرو عبدالله ؛الذى رمز بمفرداته المتناثرة للجمود والعزلة بألوانة الحيادية الباهته؛ فهو ليس إلا مجموعة من الموتيفات تساعد الممثل على أداء مهمته وهو ما يسمى بمسرح الميتاتياترو؛ أو المسرح داخل مسرح ومن ثمة كانت رؤية المخرج بتوالد العديد من الشخصيات من الشخصية الرئيسية فريدة لكسر الإيهام وإعمال العقل للثراء الفكرى؛ والتفقه فيما بين الفن والحياة ؛ ومن ثم كان الصراع النفسي لشخصية فريدة بين الذات والزمن بمتغيراته وصراعاته بين الشد والجذب.
ولذلك كان كسر الإيهام أيضاً بين الملقي والمتلقي وتلك الجدلية التى لا تسمح بالاندماج. بل بإعمال عقله في صورة هذين الواقعين ؛ بما يجعله مشاركاً في الحدث ؛ أو متماهياً فيه بقدر. كما استخدم المخرج في كثير من مواطن العرض تلك الجدلية بالتبعية كمفصل البناء الصوتي للشخصيات المتوالدة من الشخصية الرئيسية فريدة وأحيانا من الصديقة القديمة إلهام ليتحول مسار الحدث ويصبح فعل لحدث جديد ؛ بينما تلتزم الشخصية الأساسية الصمت؛ والصمت هنا وكما يقولون عند تشيكوف هو لسان حال الصمت البليغ لعبثية الوجود.
وبالأخير تأتى موسيقى العرض محمد حمدي رؤوف ، والملابس من تصميم شيماء عبد العزيز؛ والمكياج روبي مهاب والمعالجة الدراميه الجديدة بعناصرها الدرامية المغايرة للنص الأصلي بهوية مصرية التناول على مستوى التأليف والإخراج .والإبداع الأثير لرأس الحربة زهرة الأوركيد البيضاء القديرة عايدة فهمي .