فتاوى الحج (2).. ما حكم الحج والعمرة لمن يقوم بمساعدة غيره في أداء المناسك؟
تستعد المملكة العربية السعودية لاستقبال حجاج بيت الله الحرام لأداء مناسك الحج في مكة المشرفة، حيث بدأت الرئاسة العامة لشؤون الحرمين الشريفين، رفع الجزء السفلي من كسوة الكعبة المشرفة؛ استعداداً لموسم الحج هذا العام، والذي ينطلق قبل منتصف يونيو الجاري.
ومن المتوقع أن يوافق يوم 7 من يونيو الجاري، غرة شهر ذو الحجة لعام 1445 هجريا، في حال ثبتت رؤية الهلال بحسب كل بلد عربي، وعليه تبدأ العشرة أيام الأوائل من شهر ذو الحجة، حيث تبدأ مناسك الحج في اليوم الثامن وتنتهي في اليوم العاشر.
ومع اقتراب موسم الحج عادة ما تكثر تساؤلات المسلمون خلال شهر ذو الحجة ويزداد طلبهم للفتاوى حول الكثير من الأحكام المتعلقة بالحج، لذلك ففي سلسلة “فتاوى الحج” تقدم “الشروق” إجابات وفتاوى عن الأسئلة التي تهم حجاج بيت الله الحرام.
ما حكم الحج والعمرة لمن يقوم بمساعدة غيره في أداء المناسك؟
ورد سؤال لدار الإفتاء المصرية يسأل ما حكم الحج والعمرة لمن يقوم بمساعدة غيره في أداء المناسك؟ فوالدتي سيدة كبيرة ولا تستطيع الحركة بمفردها، ولذلك سأكون معها بالكرسي المتحرك في الطواف والسعي، هل مناسك العمرة والحج بالنسبة لي تكون صحيحة أو أنه لا بد أن أساعد والدتي أولًا حتى تنتهي هي من طوافها وسعيها ثم أؤدي المناسك الخاصة بي؟
وردت دار الإفتاء على هذا السؤال بأن الحجُّ والعمرةُ من شعائر الإسلام، وقد اشتَمَلتا على معاني الطاعةِ والانقياد لله سبحانه وتجديدِ التوبة، مع ما ينالُ العبدَ من غفرانِ ذنوبه وتكفير خطاياه، فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «العمرةُ إلى العمرةِ كفارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلى الجنَّة» متفق عليه.
ومن أجْل ذلك؛ جاءت السنةُ النبوية باستحباب المُتابعة بين الحجِّ والعمرة، فقد ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ، وَالذَّهَبِ، وَالفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ المَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الجَنَّةُ» رواه الترمذي في “سننه”.
وبرُّ الوالدين فرضُ عيْنٍ على كلِّ مكلف، قال الإمام أبو إسحاق الشيرازي في “المهذب” (3/ 269، ط. دار الكتب العلمية): [وبِرُّ الوالدين فرضٌ يتعيَّن عليه؛ لأنه لا ينوب عنه فيه غيره] اهـ.
بل إنَّ الله عزَّ وجلَّ قرن برَّهما بعبادته، فقال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [النساء: 36]، وقرن شكرَهما بشُكره، فقال سبحانه: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ [لقمان: 14].
وإذا اجتمعَت عبادةُ الحج مع عبادة برِّ الوالدين، قُدم بر الوالدين؛ لأن الحجَّ واجبٌ على التراخي، والبر واجبٌ فورًا.
وقد جاء في حديث الخثعميَّة أنَّها قالت: يا رسول الله، إنَّ فريضة الله على عباده في الحجِّ أدركَتْ أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبُت على الراحلة، أفأحجُّ عنه؟ قال: «نَعَمْ» متفقٌ عليه.
قال الإمام ابنُ العربي في “أحكام القرآن” (1/ 379، ط. دار الكتب العلمية): [مقصود الحديثِ: الحثُّ على بر الوالدين والنظر في مصالحهم دينًا ودنيا، وجلبُ المنفعة إليهما، جِبلة وشرعًا] اهـ.
مدى إجزاء الحج والعمرة لمن يقوم بمساعدة غيره في أداء المناسك
ذهاب مرضى الشيخوخة من كبار السن للحجِّ حال تمكُّنهم مِن الوصول إلى مكة وأداء المناسك -لا مانع مِنه شرعًا إذا وجدوا مَن يُساعِدهم، كالابن السَّائل ونحوه، ويكون حجُّهم صحيحًا مجزِئًا وتسقط به الفريضة.
ويدلُّ عليه: ما رواه البخاري في “الأدب المفرد” عن أبي بُردَة، وابن المبارك في “البر والصلة” عن الحَسَن، أن ابن عمر رضي الله عنهما رأى رجلًا يطوف بالبيت، حمل أمَّه وراء ظهره، يقول:
إِنِّي لَهَــا بَعِيرُهَا الْمُذَلَّلُ … إِنْ أُذْعِرَتْ رِكَابُهَا لَمْ أُذْعَرِ
ثم قال: يا ابن عمر أتراني جَزَيْتُها؟ قال: لا، ولا بزفرَة واحدة.
وورد في “مسند البزار” مرفوعًا: عن بُريدة رضي الله عنه، أن رجلًا كان في الطواف حاملًا أمَّه يطوف بها فسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هل أديتُ حقَّها؟ قال: لا، ولا بزَفْرة واحدة، أو كما قال.
أمَّا مساعدةُ المتنسك لوالدتِه المُسِنَّة التي لا تستطيع الحركة بمفردها في الطواف والسعيإلا باستخدام الكرسي المتحرك -وهو المسؤولُ عنه-، فلا حرج في ذلك، ويُجزئ ذلك عن طوافهما وسعيهما معًا؛ إذ لا تعلُّق لطوافِ أحدهما بطوافِ الآخر، ومثله السَّعي، وذلك لأن حركة الكرسي المتحرك تكون عن طريق الدفع على أرضِ المَطاف والمَسعى، وقد صرح فقهاء الشافعية بجواز هذه الصورة بشرط ألا يقصد الدافع المشي لأجل المحمول فقط.
قال الحافظ العراقي الشافعي في “تحرير الفتاوى” (1/ 605، ط. دار المنهاج) في التنبيه الثالث في مسألة حمل المحرم في الطواف: [لو لم يحمله، ولكن جعله في شيء موضوع على الأرض وجذبه، فهل يلتحق بالمحمول؟ لم أر فيه نقلًا، وفيه نظرٌ، وقد يتناوله قول “الحاوي”: (بمحرمين) فإن طوافه به أعم مِن حمله، فيتناول هذه الصورة] اهـ.
وقال العلامة شمس الدين الرملي في “نهاية المحتاج” (3/ 290، ط. دار الفكر، ومعه “حاشية الشبراملسي”): [وخرج بقوله “حمل”: ما لو جعله في شيء موضع على الأرض أو سفينة وجذبه فيقع للحامل والمحمول مطلقًا، إذ لا تعلق لطواف كل منهما بطواف الآخر لانفصاله عنه] اهـ.
قال العلامة الشبراملسي مُحَشِّيًا عليه: [وقوله “مطلقا” أي: سواء نوى الحامل نفسه أو هما أو أطلق أما لو نوى المحمول فقط فقد صرف فعله عن طواف نفسه] اهـ.
وقد تتابعت نصوصُ فقهاء المذاهب المتبوعة على جوازِ الركوب في الطوافِ والسَّعي للعُذر.
قال العلامة الشِّلْبيُّ الحنفي في “حاشيته على تبيين الحقائق” (2/ 20، ط. الأميرية): [قال في “الغاية”: وإن سعى راكِبًا لعُذرٍ فلا شيء عليه، وبغير عذْر عليه دم، كما في الطوافِ] اهـ.
وقال العلامة الدسوقي المالكي في “حاشيته على الشرح الكبير” (2/ 40، ط. دار الفكر): [المشي في كلٍّ مِن الطواف والسَّعي واجِبٌ على القادِر عليه، فلا دم على عاجز طاف، أو سعى راكِبًا، أو محمولًا] اهـ.
وقال الخطيب الشربيني الشافعي في “مغني المحتاج” (2/ 258، ط. دار الكتب العلمية) في سياق بيانه شروطَ الطواف: [أن يكون ماشيًا إلا لعُذر، فإن رَكِبَ بلا عذْر لم يُكره اتفاقًا، كما في “المجموع”] اهـ.
وقال العلامة منصور البهوتي الحنبلي في “شرح منتهى الإرادات” (1/ 573، ط. عالم الكتب): [(ومَن طاف راكبًا أو محمولًا: لم يجزه) طوافُه كذلك (إلَّا) إن كان ركوبُه أو حملُه (لعُذر)… (و) حكم سعي (راكبًا كطوافٍ) راكبًا نصًّا فلا يُجزِيه إلَّا لعُذر] اهـ.
وبناء على ذلك، إن مناسكَ الحج والعمرة صحيحةٌ شرعًا بالنسبة للسَّائل إذا قام بمساعَدة والدته المسِنَّة في الطواف والسَّعي بدفعها وهي على الكرسي المتحرك، ولا يُشترط الاستقلالُ في أداء النسك بحيث يترك مساعدة الغير إلى وقت آخر غير وقت أدائه، بل يجوز ضمُّ أحدهما للآخر، ويكون ذلك مجزئًا عن طوافهما وسعيهما معًا ما دام ينوي النسك عن نفسه أو عن نفسه ومَن يقوم بدفعه أو حمله، كما سبق بيانه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.