د. أحمد سعيد عزت يكتب: الزليج المغربي ووزارة الثقافة المصرية
خاضت وزارة الثقافة المغربية معركة قانونية تفاوضية على مدار 20 شهرًا، قيامًا بدورها المنوط بها قانونًا لصون التراث الثقافي المادي وغير المادي المغربي وتثمينه، منذ أن طرحت شركة أديداس الألمانية في سبتمبر 2022 دعاية ملابس رياضية لتدريب المنتخب الجزائري الأول لكرة القدم، معلنة طرحها في منافذ البيع على مستوى العالم والموقع الإلكتروني منتصف أكتوبر 2022، رأت وزارة الثقافة أنها تحمل تصميمات تمثل اعتداءً وتشويها لتاريخ وهوية عنصر تراثي ثقافي مغربي.
ما دفع المسؤولين القانونيين لدى الوزارة المغربية إلى إنذار الشركة الألمانية إنذارًا قانونيًا، مطالبين بمنع توزيع وبيع القمصان التي تحمل هذه التصميمات، وفسخ التعاقد مع الإتحاد الجزائري لكرة القدم بشأن توريد هذه الملابس، والمطالبة بتعويض مالي عن الأضرار القانونية المادية والمعنوية التي لحقت بالمجتمع المغربي.
نتيجة الاستغلال الاقتصادي دون إذن لعناصر تراثية ثقافية مغربية، والسطو على عناصر تراثية ثقافية للمجتمع المحلي، واستخدامها خارج سياقها، ما يعد اعتداءً على حقوق الملكية الفكرية للمجتمع المغربي.
أصدرت الشركة الألمانية بيانًا إعلاميًا في 14 من أكتوبر 2022 مبدية اعتذارًا واحترامًا للشعب والحرفيين في المغرب، واعترافًا بأن التصميم كان مستوحى من نمط فسيفساء “الزليج – Zellige” المغربي، والتأكيد على أن الشركة لم تكن تقصد المساس بالسلامة الثقافية والتراثية أو الإساءة إلى أي جهة.
لم يكن بيان الاعتذار -رغم أثره المعنوي الإيجابي- منهيًا للإجراءات القانونية التي بادرت بها الوزارة المغربية، التي قادت مشاورات ومناقشات ومفاوضات قانونية للمطالبة بتحقيق باقي مطالب الإنذار القانوني، حتى أعلنت في 16 من مايو 2024 عن إطلاق الشركة الألمانية مجموعة من القمصان والحقائب ومنتجات أخرى، في الأسواق المغربية والعالمية، تحمل أسماء مدن مغربية (مكناس – فاس – مراكش – الرباط) تكريمًا للحرفيين التقليديين المغاربة، واعترافًا بالتراث الثقافي غير المادي المغربي، مع تعويض مالي متمثل في نسبة من عائدات المبيعات للمنتجات الجديدة، التي شاركت في تصميمها مجموعة من نساء –تعاونيات- الصناعة التقليدية في المغرب.
لم يكن ما قادته وزارة الثقافة المغربية أمرًا مستحدثًا أو خروجًا عن المألوف في دفاع وزارات الثقافة عن الهوية الوطنية، متمثلة في التراث الثقافي غير المادي للمجتمع.
فوزارة الثقافة المكسيكية عام 2021 كانت قد أرسلت خطابات احتجاجية إلى 3 علامات تجارية لشركات تصميم ملابس نسائية، احتجاجًا على استغلالها بدون إذن عناصر ثقافية وطنية، تمثل إبداع شعب المكستك -الشعب الأصلي لمقاطعة سان خوان في المكسيك- مطالبة بتقديم تفسير وشرح لأسباب الإعتداء على حقوق الملكية الفكرية للشعب الأصلي، والدعوة إلى تحديد آلية استفادة اقتصادية مشتركة بين العلامة التجارية والمجتمع المحلي مستقبلًا.
وجاءت استجابة إحدى هذه العلامات التجارية بسحب التصميمات من الأسواق، والإعراب عن الإحترام للمجتمع المحلي وإبداعه، والإعتذار عن استعارة التصميم بغير قصد.
وفي غضون عام 2017، وإزاء حملة دعائية لإحدى الشركات ترويجا لمنتج في الأسواق المصرية، معتمدًا على الأمثال الشعبية المصرية في تصميم صناعي لعبوات المياه الغازية، مع تعديلات مشوهة لعنصر من عناصر التراث الثقافي غير المادي المعبر عن هوية المجتمع، مستغلًا الارتباط النفسي بين المجتمع وأمثاله الشعبية؛ تحقيقا لرواج اقتصادي بزيادة المبيعات، لكن بطريقة اشتملت على إهانة وازدراء للأمثال الشعبية المصرية.
ما دفع لجنة الفنون الشعبية والتراث الثقافي غير المادي بالمجلس الأعلى للثقافة –وقتئذ- إلى رفع مذكرة اعتراض في 13 مايو 2017 لأمين عام المجلس الأعلى للثقافة –آنذاك- للمطالبة بإعمال أحكام نص المادة 142 من قانون حماية حقوق الملكية الفكرية رقم 82 لسنة 2002، باختصاص وزارة الثقافة –المصرية- في مباشرة الحقوق الأدبية والمالية على الفلكلور الوطني.
إلا أن المذكرة التي تقدم بها أعضاء هذه اللجنة ممثلين في مقررها –حينذاك- الأستاذ الدكتور/ أحمد علي مرسي، لم تجد للأسف صدى أو استجابة، وحبست في أدراج البيروقراطية، وذهبت الآمال وراءها أدراج الرياح.
أما ما ذاع صيته مؤخرًا من تسجيل علامة جماعية لمنتج تراثي؛ فإن البون شاسع بين التقدم بطلب لتسجيل علامة تمتد مدد فحصها استيفاءً للشروط الشكلية والموضوعية -وفق ما قررته اللائحة التنفيذية لقانون حماية حقوق الملكية الفكرية- مدد تتراوح في مجموعها بين 12-18 شهر من تاريخ التقدم بطلب التسجيل، وبين صدور قرار تسجيل العلامة وصولًا إلى استصدار شهادة تسجيل العلامة، فتنصب حينها الحماية على العلامة ذاتها، دون المعرفة أو الممارسة أو المهارة لهذا العنصر أو غيره من عناصر التراث الثقافي غير المادي.
أما تقوم به وزارة الثقافة من مجهودات دؤوبة في إدراج عناصر التراث الثقافي غير المادي الوطنية في قوائم اليونسكو، سواء التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية، أو الذي يحتاج إلى صون عاجل، هو جهد معتبر في إطار اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي كان حاصله تسجيل عدد (8) عناصر منذ عام 2008 وحتي عام 2023 بإسم مصر، بينما بلغت عدد العناصر المدرجة بإسم المغرب (14) عنصرًا و(12) عنصرًا بإسم المكسيك في الفترة ذاتها.
الواقع أن تعدد العناصر المدرجة في قوائم اليونسكو، إعمالًا لآليات هذه الاتفاقية مهما بلغت محدود الأثر، لقصور اتفاقية اليونسكو في أثر هذا الإدراج أو غيره من الإجراءات، وغياب إلزامية تجريم الإعتداء الأدبي أو الاستغلال الاقتصادي غير المأذون لهذه العناصر، ولو كانت مدرجة في أي من القائمتين؛ ما يقلل من آليات الصون القانونية المبتغاة.
بينما لو بذل هذا الجهد على صعيد إعداد قوائم وقواعد بيانات الكترونية وطنية منضبطة، بتكامل بين أدوار الوزارات والجهات المعنية، والمجتمعات المحلية، برابطة جهود منظمات المجتمع المدني المختصة والمتخصصة، وتقييم اقتصادي لهذه العناصر كأصول غير مادية، وترويج اقتصادي وسياحي لهذه القيم الوطنية، في إطار تنظيم تشريعي يجرم الاستغلال الاقتصادي غير المرخص من وزارة الثقافة ، أو أي اعتداء على الحقوق الأدبية؛ لتحقق الهدف من صون هذه العناصر، بما يحقق دخل اقتصادي للمجتمعات المحلية، وللوزارة يعينها على القيام بدورها المنوط بها في هذا الخصوص، ويحقق الغاية من أهداف التنمية المستدامة.
إن الممارسة الحية المعتادة للتراث الثقافي غير المادي تحقق أهداف التنمية المستدامة؛ والأدلة العملية الحياتية على ذلك متعددة، ومثالها تحقيق السلام والعدل الهدف 16 من أهداف التنمية المستدامة.
إذ يمارس مجتمع واحة سيوة منذ ما يزيد على 160 عام ممارسة عرفية حكمها ويحكم استمراريتها العرف المحلي، تعرف بعيد الصلح أو الحصاد، مزجًا بين دلالة الحصاد واستدامة الصلح، الذي ترأسه ورعاه الشيخ الظافر المدني مؤسس الطريقة المدنية الصوفية في واحة سيوة بين السيويين (أهالي سيوة) الشرقيين والغربيين، منهيًا فترة صراع طويل بين الطرفين، وتزامنًا مع موسم حصاد التمر والزيتون بالواحة، في الليالي القمرية من شهر أكتوبر كل عام، فيتم توزيع الطعام “الفتة المصرية” على جميع أهالي وضيوف الواحة من رجال ونساء وشيوخ وأطفال، في توقيت واحد –بعد صلاة الظهر- وأكله جماعيًا بإذن من منادٍ ينادي فيهم إيذانًا بتناول الطعام جماعيًا، في طقس اجتماعي مهيب ومبهج.
تلك الممارسة الاجتماعية وطقوسها واحتفالاتها تنعكس على اقتصاديات أهل واحة سيوة، فذيوع سيط هذه الممارسة الاجتماعية ارتبط بزيادة الإقبال السياحي على الواحة، وزيادة مبيعات منتجات الفنون الحرفية التقليدية، وما يرتبط من عناصر تراثية أخرى، مثل ممارسات فنون وتقاليد أداء العروض، وانتقال هذه الممارسات والفنون بين أهالي الواحة والضيوف، التي تحقق من ورائها استلهام واقتباس فكرة أسطورة شعبية سيوية عن صراع الإنسان والشيطان في ليلة اكتمال القمر بدرًا، لتتحول إلى فيلم سينمائي، لكن دون إفادة هذه الجماعة الوطنية.
نجدد الدعوة مرة أخرى إلى اضطلاع وزارة الثقافة بدورها في صون التراث الثقافي غير المادي، لا من خلال الجمع والحصر والتوثيق فحسب، وإنما بتبني مقترح مشروع قانون لصون وتنمية عناصر التراث الثقافي غير المادي، بما يحقق أهداف التنمية المستدامة، وأهداف رؤية مصر 2030.
دكتوراه في القانون المدني، متخصص في الملكية الفكرية
حاصل على جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاقتصادية والقانونية