أخبار مصر

مصطفى الفقي يكتب: العمل العربى.. المسكوت عنه!

الغرب على ضفتى الأطلسى ما زال يقامر بالمصالح العربية ويسعى جاهدًا لترسيخ نفوذه فى المنطقةويؤثر تأثيرًا كبيرًا فى صورة المستقبل وطبيعة التعايش المحتمل عندما تسكت المدافع وتلوح فى الأفق ملامح السلام الحقيقى.

ظللنا نلوك عبارة العمل العربى المشترك لعقود عدة، وعلى رغم أن هناك منعطفات تاريخية بدا العمل العربى فيها مشتركًا بالفعل محققًا إنجازات ملموسة عندما تضافرت جهود دول القتال مع جهود دول النفط حتى تشكل من الإطار الكلى نسيج قوى يعبر عن روح العمل العربى المشترك فى أفضل صوره.

وقد جرى ذلك بعد حرب أكتوبر عام 1973 حيث وقفت الدول النفطية بقيادة السعودية موقفًا حاسمًا تغيرت به حينها خريطة العالم وليس مجرد خريطة المنطقة فحسب، فالحظر البترولى من دول الخليج الذى قادته السعودية بقيادة ملكها الراحل الملك فيصل بن عبدالعزيز قد أدى فى النهاية إلى ضغط هائل على الدول الغربية، وكنت وقتها طالب دكتوراه فى جامعة لندن وشهدت ذلك التأثير الذى بدا واضحًا فى ارتفاع الأسعار على نحو غير مسبوق، وأدى إلى فزع حقيقى فى المجتمعات الغربية حتى إن داهية الدبلوماسية الأميركية وأعنى به هنرى كيسنجر قد رفع شعاره الشهير (food for crude) وما تبع ذلك من تحول اقتصادى عالمى وارتفاع جنونى فى الأسعار لا تزال أصداؤه قائمة حتى اليوم.

لا أظن أن العمل العربى المشترك قد وصل إلى مرحلة تقترب من ذلك التضامن القومى القوى الذى عرفته المنطقة فى أعقاب تلك الحرب الظافرة، ولو نظرنا إلى الساحة حولنا لوجدنا أن المشهد مختلف وأن البيئة قد تغيرت وأن المناخ العروبى لم يعد يتمتع بما تمتع به من قبل من صلابة وتماسك وقدرة على اتخاذ القرار الصحيح فى الوقت المناسب. ولعلنا نطرح الملاحظات التالية حول طبيعة العمل العربى المشترك وأهمها:

أولاً: إن التركيز على الدولة الوطنية قد أدى بالضرورة إلى مزيد من الاهتمام بالهوية القطرية، واعتبار الدول العربية فى مجملها تبحث عن المصالح الخاصة لكل منها فى إطارها المحلى الذى قد لا يؤدى بالضرورة إلى الاتساق الكامل أو التناغم المنضبط الذى يتجاوب مع المصالح المحلية لكل دولة، دعونا نعترف أن الشعارات العامة لم تعد تؤتى أكلها وتعطى ثمارها فى ظل أجواء مختلفة وعالم متغير.

ثانيًا: إن الاستهداف الأجنبى للقرار العربى المنفرد أو المشترك لم يعد يترك مساحة لغير الراغبين فى التعامل مع تلك القوى الأجنبية وضغوطها الخارجية، وليس سرًا أن نقول إن هناك قوى تحرك تلك الأصابع الأجنبية بانتظام لا يقف عند حد ولا ينتهى مع مرحلة معينة، فالغرب على ضفتى المحيط الأطلسى ما زال يقامر بالمصالح العربية ويسعى جاهدًا لترسيخ نفوذه فى المنطقة. فالأطماع الأجنبية مستمرة فى مصادر الطاقة والمياه والأراضى العربية، وكلها مصادر هامة للبقاء حيث نعيش حاليًا مرحلة حرجة فى المواجهة التاريخية بين الشرق والغرب، وهو ما أبرز تعبيرات دبلوماسية جديدة مغايرة لما كان سائدًا من قبل مثل الدفاع عن السامية أو المعاناة على الجانب الآخر من مجمل التعبير الظالم بعنوان الإسلاموفوبيا.

ثالثًا: إن الذى شهدناه فى السنوات الأخيرة كان ولا يزال متأثرًا إلى حد كبير بروح التجديد بين أجيال من المتعلمين بعد موجات الابتعاث من بعض دول الخليج وفى مقدمتها السعودية، حيث نلاحظ أن الكوادر الجديدة بدأت تمضى باتجاه للتحديث والعصرنة وتلك نتيجة لا ننكرها بل نعتز بها ونزهو. ولكن الأمر الذى لا جدال فيه يكمن فى محاولات الفصل بين التقدم التكنولوجى والانتماء الأيديولوجى وكأنما هناك من يحاول الفصل بين محاولات التحديث فى جانب وعمق الانتماء الروحى فى جانب آخر، وهو أمر يبدو معقدًا للغاية وكأنما الحداثة لا تستقيم مع العقائد الدينية ولا تمضى التوجهات المستقبلية مع التراث التاريخى والأفكار الموروثة والنظرات السائدة.

رابعًا: إن الصراعات الجديدة قد بدأت تتخذ أساليب متنوعة من دولة لأخرى، فتلك يمكن التضييق عليها فى منابع النهر مثلما هو الأمر بالنسبة لسد النهضة الإثيوبى وتأثيره فى تدفق مياه النيل عبر الوادى الذى يجرى فيه منذ آلاف السنين، وهناك أيضاً ما هو عدوان على الهوية بزحف دول جنوب الصحراء الأفريقية على شمالها تحت تسميات الهجرة، وهنا تبرز الحساسيات ونتساءل كيف حال الدولة الليبية الشاسعة؟ وما هو مستقبل السودان فى ظل الظروف الطارئة والأحوال المضطربة الحالية على امتداد الخريطة القومية؟ ولا شك أن المسعى الكبير الذى بذلته أقطار عربية يمكن أن يكون وهماً إذا تمكنت التيارات المعادية للإصلاح والتنمية من أن تقهر إرادة الشعوب مرة أخرى وتسيطر على مقدراتها كما لم تفعل من قبل.

خامسًا: إن وجود دولة إسرائيل فى المنطقة العربية له دلالته وخطورته فى الوقت ذاته، فلو أننا تخيلنا المنطقة من دون قيام الدولة العبرية التى تعتمد على دعاوى تاريخية ودينية على رغم أنها لم تمر بالسياق والمراحل التى عبرت عليها دول أخرى فى المنطقة منذ النشأة حتى اليوم، وحينها سنكتشف على الفور أن قيام دولة إسرائيل هو أخطر حدث جرى على الساحة فى القرنين العشرين والحادى والعشرين، وسندرك أيضًا أن إسرائيل دولة تقوم على فكرة عنصرية وعقيدة دينية ولكنها لا تتطلع إلى الاندماج الحقيقى والتعايش المشترك مع دول الجوار وتلك نقطة مهمة لأنها ببساطة تعنى أن إسرائيل تريد أن تعيش فى (غيتو) وسط محيط كبير من كيانات عربية ودول تملك مقومات قومية مشتركة لا تتفاعل معها إسرائيل بسهولة، وتلك مسألة معقدة تشير إلى غياب حالة التعايش المشترك الذى لا يبدو قريباً فى الأفق بحال من الأحوال على رغم أن الظروف المحيطة فى غرب آسيا وشمال إفريقيا توحى بإمكانية تحقيق ذلك، بل إننى أجازف وأقر أن ما جرى فى غزة منذ السابع من أكتوبر عام 2023 حتى اليوم هو تعزيز لتلك النظرة التى ترى أن اشتداد أزمة معينة واحتدام المواجهة ينتج منه ما يمكن تسميته الوصول إلى لحظة الصدام لكى ينفرج، فتلك الأحداث فى الأشهر الأخيرة أصبحت تلح على صناع القرار فى العالم إلى ضرورة وجود حل جذري، وقد قالوا قديماً (اشتدى يا أزمة لتنفرجى)، وهكذا تيقن الجميع بما فى ذلك اليهود أنفسهم أن أسلوب المواجهة العسكرية الدامية صباح مساء لن يقدم حلولاً منطقية يمكن أن تخدم السلام والأمن فى المنطقة أو تمهد للتعايش المشترك. ولسنا نملك حلولاً سحرية لما تواجهه المنطقة ولكن الأمر الذى لا خلاف حوله هو أن السلام العادل حل نهائى مهما طال الزمن!.

سادسًا: إذا كانت إسرائيل تحتل الأرض فإن العرب يملكون كروتًا أخرى فى المقابل، فالتطبيع مع إسرائيل أمر شديد الأهمية ورصيد عربى ضخم يعطى شعورًا بالقوة على الجانب الآخر، ويؤثر تأثيرًا كبيرًا على صورة المستقبل وطبيعة التعايش المحتمل عندما تسكت المدافع وتلوح فى الأفق ملامح السلام الحقيقى.

سابعًا: إن العمل فى ظل الشرعية الدولية قد أصبح يعطى آمالاً واسعة فى ظل الأرضية التى اكتسبتها القضية الفلسطينية، خصوصًا فى الأشهر الأخيرة، فضلاً عن بسالة التضحيات التى يقدمها الفلسطينيون رجالاً ونساءً وأطفالاً من أجل وطنهم، ونحن نظن أن العالم قد تغير وأصبح للفلسطينيين رصيد لدى كثير من دول العالم المعاصر، كما أن إسرائيل فى المقابل قد خسرت الكثير من صورتها التى كانت تزهو بها وتصور فيها للجميع أنها ذلك الكيان المتفرد فى الشرق الأوسط وأن جيرانها هم الذين يتربصون بها ويحاولون القضاء عليها، وتلك أكذوبة كبرى لم يعد لها وجود.

هذه بعض ملامح ما نرجوه من العمل العربى المسكوت عنه حول دروس الماضى ومنظور الحاضر ورؤية المستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *