«المتدرب».. انقلاب فى حياة ترامب على شاشة السينما
* الفيلم يكشف رحلة رجل العقارات من البيزنس لأطماع السلطة.. ولحظات الخيانة والاغتصاب والتمرد
* روى كوهن نصحه بالاعتراف بأى شىء وإنكار كل شىء.. ومهما تعرض للهزيمة لا يعترف أبدًا بها
مازالت رحلة الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب إلى السلطة وكواليسها، تشكل محطات مثيرة وثرية لبعض مخرجى السينما الكبار الذين يبحثون عن إجابات كاشفة لأسئلة ظلت تطرح دائما عن تلك الشخصية التى فاجأت العالم يوما ما بجلوسها على الكرسى الأكبر بالبيت الأبيض.
من هؤلاء المخرج الايرانى الدنماركى على عباسى بفيلمه «المتدرب» The Apprentice الذى عرض بالمسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائى الـ77، ويتناول برؤية ساخرة مسيرة صعود ترامب المهنية كرجل أعمال عقارى بنيويورك فى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى والتحولات التى تحدث له وهى مصاحبة بتهم التمييز العنصرى والاغتصاب وخيانة رجاله المقربين وخروجه من طوع الأب حيث كان فى ذلك الوقت تابعًا أخرق اجتماعيا وغير آمن فى الأعمال العقارية لوالده المتنمر.
وكان السؤال: هل يمكن أن يكون للفيلم أى تأثير على الانتخابات الأمريكية، خاصة أنه عرض فى أكبر محفل سينمائى يحظى بحضور إعلامى كبير، وقد أحدث بالفعل عاصفة من الجدل بما يطرحه من أحداث، ونال إعجابا كبيرا أيضا لفنياته التى توجت بالتصفيق لمدة عشر دقائق.
لم يكن انتظار التأثير طويلا، حيث تعهدت حملة ترامب فى حينها بمقاضاة صناع «المتدرب» بسبب عدة مشاهد أبرزها مشهد اغتصاب إيفانا ترامب «الزوجة السابقة» على يد قطب العقارات آنذاك، حيث هدد ترامب بمقاضاة الفيلم وفريقه بمنع عرض العمل، وصرح ستيفن تشيونج، عضو حملة ترامب «سنرفع دعوى قضائية لمعالجة التأكيدات الكاذبة الصارخة من هؤلاء المخرجين المزعومين».
وقال تشيونج: «هذه القمامة هى خيال خالص يعمل على إثارة الأكاذيب التى تم فضح زيفها منذ فترة طويلة، وكما هو الحال مع محاكمات بايدن غير القانونية، فإن هذا تدخل فى الانتخابات من قبل نخب هوليوود، الذين يعرفون أن الرئيس ترامب سيستعيد البيت الأبيض ويهزم مرشحهم المفضل لأنه لم ينجح أى شىء فعلوه».
وأضاف: «هذا الفيلم هو تشهير خبيث تمامًا، ولا ينبغى أن يرى النور ولا يستحق حتى مكانا».
يصور فيلم «المتدرب» الذى تم تصنيفه على أنه مستوحى من أحداث حقيقية صعود ترامب الذى يجسده ببراعة (سيباستيان ستان) إلى السلطة بفضل روى كوهن (جيريمى سترونج) المحامى اليمينى المؤثر والمصلح السياسى ذى العلاقات الجيدة والذى سرعان ما أصبح معلمه وهى اللحظة التى يقدمها المخرج والكاتب حيث صعود ترامب المالى وانحداره الأخلاقى قد بدأ فيها بالفعل.
هناك مشهد يصور الرئيس الماضى وربما المستقبلى وهو يغتصب زوجته آنذاك إيفانا ترامب (التى تلعب دورها ماريا باكالوفا) بحسب وصفها فى شهادة الطلاق التى قدمتها عام 1990، ذكرت أن ترامب اغتصبها وكانت السيدة الأولى السابقة، والتى توفيت عام 2022، قد تحدثت عن الاعتداء الجنسى فى السنوات التى أعقبت طلاق الزوجين، لكنها تراجعت لاحقًا عن الحادث فى العقود التى سبقت وفاتها وقالت إنها لم تكن تقصد ذلك حرفيًا، بل شعرت بالانتهاك.
لدى «المتدرب» أيضًا صورة كاشفة إلى حد ما حول حصول ترامب على علاج للشعر بسبب بقعته الصلعاء وشفط الدهون من جسده السمين، قالت إيفانا لترامب فى الفيلم: «لديك وجه مثل البرتقالة، أنت تصبح سمينًا، وتصبح قبيحًا، وتصبح أصلع»، ثم تقوم شخصية ترامب بالتعامل مع زوجته بخشونة واغتصابها.
وبطبيعة الحال، فإن الفيلم يصور الظهور الأول لترامب وعائلته وأتباعه وطرقهم المخادعة المزعومة، كدراما وثائقية تكشف اشياء كثيرة، وقد خطف المخرج على عباسى الأنظار عندما يُظهر دونالد ترامب وهو يتعلم على يد روى كوهن، لكن هل كان ذلك كافيا لجعله ترامب الذى نعرفه؟ السؤال يفرض نفسه ضمنيا على الشاشة، يعتقد بعض المشاهدين أن هناك لغزا فى منظومة فكر ورحلة دونالد ترامب، فيما لا يعتقد الكثيرون أنه لا يوجد أى لغز، بل مجرد إرث واضح وموثق للغاية من السلوك السيئ، والأنانية، والتجاوزات الإجرامية، وإساءة استخدام السلطة.
تعيش أجواء مختلفة مع الفيلم.. عندما جعل ترامب من شعاره «أوقفوا السرقة» حجر الزاوية الجديد لأيديولوجيته، زاعما، منذ ليلة انتخابات 2020 فصاعدا، أن جو بايدن سرق الانتخابات، فهل كانت هذه أطروحة بسيطة أم أكاذيب؟ بعبارة أخرى، هل كان يعلم أن ذلك غير صحيح؟ كذبة رددها ترامب فى كثير من الأحيان، بطريقة تدافع عن غروره، حتى أصبح يصدقها هو نفسه.
«المبتدئ» الذى كتبه الصحفى جابرييل شيرمان، عبارة عن دراما وثائقية مفعمة بالحيوية وليست مبالغة فى السخرية من السنوات التى شهدتها أمريكا وأصبح فيها دونالد ترامب هو دونالد ترامب، حيث قدم الفيلم قصته بشكل لاذع، التقط ما حدث بالفعل.
تبدأ ألاحداث فى عام 1973، عندما كان ترامب شابا مستهترا يبلغ من العمر 27 عامًا ويعمل نائبًا لرئيس شركة والده العقارية. فى المشهد الأول، يجلس دونالد فى مطعم Le Club، وهو مطعم وملهى ليلى مخصص للأعضاء فقط والذى انضم إليه مؤخرًا. إنه يتحدث مع عارضة أزياء، لكن عينيه مثبتتان على الرجال الموجودين فى الصالة، أشخاص يتمتعون بما يتوق إليه ترامب: السلطة.
فيما يجلس على طاولة فى الغرفة المجاورة روى كوهن (جيريمى سترونج)، محاطا بالعديد من المقربين الأقوياء أو الفاسدين، وهو المحامى العنيد سيئ السمعة ومهندس احدى عمليات Red Scare حيث عمل كمستشار رئيسى للسناتور جو مكارثى خلال جلسات الاستماع بين الجيش ومكارثى، والذى استخدم فى وقت سابق وسائل مشكوك فيها لإدانة جوليوس وإثيل روزنبرج كجواسيس سوفيتيين، مما أدى إلى إعدامهما عام 1953. وبحلول سبعينيات القرن العشرين، كان قد بدأ يكتسب المزيد من القوة باعتباره وسيطا استثنائيا، أصبح محاميا خاصا ومصلحا صديقا لكل الأشخاص المهمين (رجال العصابات والسياسيين وبارونات الإعلام). ينظر إلى دونالد ترامب مثل تنين جائع ينظر إلى فريسة، بنظرة يمكن وصفها بأنها نظرة قتل.. إنه يريد أن يقتل شيئا ما.
يستدعى كوهن ترامب إلى طاولته، يقوم جيرمى سترونج بتجسيد تلك الشخصية بشكل مغناطيسى الذى حول التنمر إلى شكل من أشكال الاستحواذ كطريقة جديدة لممارسة القانون، مسيطرا بروحه الوضيعة وبذكاءه اليهودى الكاره للبشر يتحدث بصوت سريع ومقطع يطلق الشتائم مثل الرصاص، مع تلك العيون التى ترى كل شىء. على النقيض من ذلك، يبدو ترامب ناعما بشكل صادم مثل صبى كبير متضخم، وعلى الرغم من أن لديه طموحه العقارى، وأحلامه كسمسار السلطة، فإنه ليس لديه أى فكرة عن مدى القسوة التى سيتعين عليه أن يكون عليها.
ينظر كوهن إلى ترامب ويرى حليفا، أو ربما طفلًا يتمتع بإمكانيات. وكما يوضح ترامب، فإن عائلته فى مأزق قد يؤدى إلى سقوطهم. رفعت وزارة العدل دعوى قضائية ضد منظمة ترامب بتهمة انتهاك قانون الإسكان العادل والتمييز ضد السود من خلال منع الأمريكيين من أصل أفريقى من استئجار عقاراته. وبما أن الأسرة هى فى الواقع مذنبة، فلا يبدو أن هناك طريقة للخروج من هذا الأمر. لكن يوجد كوهن، الذى يطرح خطة لكيفية تجاوز ذلك بعد رفض القاضى وخاصة الفيدرالى الدعوى المضادة، يقول كوهن: معارضة الحكومة. إنها جزء من استراتيجيته للهجوم، ثم الهجوم، ثم الهجوم «أول قواعده الثلاثة للحياة»، إلا أن ترامب قام فى وقت لاحق بتسوية القضية خارج المحكمة، وهى خطوة أولى مشجعة لشخص طموح مصاب بجنون العظمة.
يعود ترامب إلى منزل عائلته فى فلاشينج، وبينما كانوا يتناولون العشاء، نرى كيف تعمل الأسرة. يهيمن الأب والزعيم، فريد ترامب (الذى يلعب دوره بشكل مثالى مارتن دونوفان)، على العمل – والعائلة ، إنه يعامل أبنائه بقسوة، وخاصةً فريدى الذى يحمل الاسم نفسه (تشارلى كاريك)، والده يسخر منه علانية لكونه طيارًا. دونالد برىء، خاضع لوالده، من خلال روى كوهن، يعتقد أنه وجد طريقة لإنقاذ الأسرة. والأكثر من ذلك، فإن روى هو الأب الذى لا يمكن أن يكون عليه والده: فهو الذى يعلمه كيفية الحصول على السلطة، بدلا من سحقها من خلال المنافسة.
إن نجاح كوهن فى التغلب على الحكومة نيابة عن منظمة ترامب، وإبطال دعوى التمييز، قصة مشهورة. ووفقا لسيناريو جابرييل شيرمان، فإن فيلم «المبتدئ» يروى نسخة أكثر فضيحة. فى الفيلم، كوهن سوف يخسر القضية وهو يعلم ذلك. (تمتلك منظمة ترامب نماذج إيجار لمقدمى الطلبات السود مميزة بالحرف «C») لذا فى أحد المطاعم، عقد هو ودونالد اجتماعا غير رسمى مع المسئول الفيدرالى الذى يعمل بالقضية. ويتوصل كوهن الى صفقة.
نيويورك، فى هذه المرحلة، فى حقبة السبعينيات البائسة المتهالكة على حافة الإفلاس، ودونالد مصمم على تغيير ذلك. حلمه هو شراء فندق كومودور المغلق فى شارع 42، بجوار محطة جراند سنترال مباشرةً، وتحويله إلى فندق جراند حياة الفاخر المتلألئ. المنطقة متداعية للغاية لدرجة أن معظم الناس يعتقدون أنه مجنون. ولكن هذا هو المكان الذى يمكننا أن نرى فيه شيئًا عن ترامب: أنه لم يكن مجرد دجال، بل كان لديه تصور للأشياء. لقد كان على حق بشأن نيويورك: أنها ستعود، وأن الصفقات المشابهة لصفقته يمكن أن تكون جزءًا مما أعادها. لكن فن الصفقة، فى هذه الحالة، يأتى من روى كوهن ودونالد الآن هو تلميذه
يقدم المخرج على عباسى الكثير من اللقطات المتداخلة التى تؤدى المهمة فى الاقناع بالواقع الذى نراه. وكذلك الأمر بالنسبة للديكور، فبينما يبدأ ترامب فى تطوير ذوقه تجاه المناطق المحيطة الأكثر فخامة، يعيد الفيلم خلق كل صورة.
ويجىء أداء سيباستيان ستان رائعا، فهو يفهم لغة جسد ترامب المهووسة، ومشيته المهيبة ويداه مثبتتان بصلابة على جانبيه، وبنفس القدر يفهم لغة الوجه. يبدأ بنظرة صبيانية منفتحة، ثم تصبح تلك النظرة، بدرجات حاسمة أكثر فأكثر.
أصبح دونالد الآن هو حياة أخرى حيث يلتقى بأشخاص قوية مثل روبرت مردوخ، وجورج شتاينبرينر، والفنان آندى وارهول، الذين يلتقى بهم دون أن يعرفوا حتى من هو (على الرغم من أن الفيلم يشير إلى أن لديهم الكثير من القواسم المشتركة). فى Le Club، يلتقى بإيفانا زيلنيكوفا (ماريا باكالوفا)، فتاة الحفلات التشيكوسلوفاكية التى تتمتع بالقوة. إنه يجذبها من خلال مزيج من السحر وقسوة الملاحقة. نرى ترامب يستوعب دروس كوهن الثلاثة للنجاح: الهجوم، الهجوم، الهجوم الاعتراف بأى شىء، وإنكار كل شيء؛ وادَّعِ النصر دائمًا مهما تعرضت للهزيمة، فلا تعترف أبدًا بالهزيمة.
فى النصف الأول من الفيلم، يعد «المبتدئ» بمثابة ضربة قاضية: فالنظرة الداخلية لكيفية تطور ترامب التى تصورها الكثير لفترة طويلة، ورؤيتها وهى تتحقق أمر مقنع ومثير للاهتمام فى نفس الوقت. ومع ذلك الفيلم كله يدور حول لغز ترامب الذى لم يستطع اختراقه بشكل كبير.
هناك لحظة يصبح فيها ترامب أكبر من أن يحتمله احد، متجاهلاً درسًا آخر موجودًا فى رؤية كوهن للعالم، وهو أنه يتعين عليك المناورة فى العالم الحقيقى. يشكك كوهن فى هوس ترامب ببناء كازينو فى أتلانتيك سيتى، وهو المكان الذى يقول كوهن إنه «بلغ ذروته». ينتهى الأمر بترامب إلى القيام باستثمارات سيئة، والتحليق بعيدا، مما يؤدى فى النهاية إلى استبعاد روى كتطور للغطرسة المطلقة.
ومن وقت صفقة أتلانتيك سيتى تقريبًا، الى إنشاء برج ترامب يتحول دونالد إلى ترامب الذى يعرفه العالم اليوم: الآلة البشرية المتغطرسة النرجسية، الذى يعامل كل من حوله بعصبية. زواجه من إيفانا يتحول إلى كارثة بلا حب. ينقلب على شقيقه المدمن على الكحول مثل الغريب. لقد أصبح بلا قلب لدرجة أنه جعل روى كوهن يبدو محتضرا بعد انقلابه عليه. ويرجع ذلك جزئيًا إلى إصابة كوهن بالأيدز، الأمر الذى يخيف دونالد ترامب الذى نراه يمر عبر مرآة الخيانة، ويستفيد من إمبراطوريته – وما تبقى من عواطفه – اللغز الذى لم يحله الفيلم أبدا هو ما كان يفكر فيه ترامب، فى أعماقه، عندما اختار أن يصبح دونالد ترامب.
استطاع المخرج أن يصنع دراما شخصية مثيرة للاهتمام وحولت معنى الحلم الأمريكى فى الوعى العام من خلال الكشف عن بطنه الفاسد، وبالتالي، فإن نسخة سيباستيان ستان من ترامب تعتبر نفسها الحالم الأمريكى المطلق، لكنه، على الرغم من أنه ولد بملعقة فضية، يائس من تحسين حظه فى الحياة والزحف من تحت ظل والده. إنه موهوم، لكنه مدفوع لتسلق قمم الأعمال والصناعة – لذا فمن أفضل من رجل مستعد لفعل أى شىء للوصول إلى هناك.
بعد العرض الأول، خاطب عباسى جمهوره قائلاً: «لا توجد طريقة مجازية لطيفة للتعامل مع موجة الفاشية المتصاعدة.. لقد ظل الناس الطيبون هادئين لفترة طويلة ..لذلك أعتقد أن الوقت قد حان لجعل الأفلام سياسية مرة أخرى».