صالون «القاهرة عنواني» يروي فصلاً منسياً من تاريخ مأساة عمرها أكثر من 100 عام بنقابة الصحفيين
استضاف مسرح نقابة الصحفيين، أمس السبت، صالونا ثقافيا لمناقشة كتاب “فرقة العمال المصرية: العِرق والفضاء والمكان في الحرب العالمية الأولى”، بحضور مؤلفه المؤرخ الأمريكي كايل جون أندرسون، أستاذ التاريخ المشارك بجامعة ولاية نيويورك بالولايات المتحدة والمتخصص في تاريخ الشرق الأوسط الحديث والتاريخ الإسلامي، وأدار المناقشة الكاتب الصحفي محمود التميمي.
-عامل بناء صاغ النشيد الوطني لمصر
وانطلقت الأميسة على نغمات النشيد الوطني لمصر “بلادي بلادي” والذي طرأت عليه عدة توزيعات موسيقية؛ لكن اللحن الأصلي له من صناعة الموسيقار الكبير سيد درويش، والذي خرج من فئة العمال المصريين؛ حيث عمل لفترة من بدايات حياته في أعمال البناء والمعمار؛ لذا ينتمي بشكل أصيل لفرقة العمال المصرية التي عانى نصف مليون شخص منهم ويلات الحرب العالمية الأولى بأعمال السخرة لخدمة الجيش الإنجليزي.
وقال محمود التميمي، إننا نفخر بأن النشيد الوطني لبلدنا صنعة عامل بناء ينتمي لفرقة العمال المصريين.
-يا عزيز عيني.. أنا بدي أروح بلدي
وتحدث التميمي، عن دور الفنان سيد دروريش في التوثيق لتلك المرحلة بعرض مشهد من فيلم تناول سيرته الذاتية وقام ببطولته الفنان كرم مطاوع، ويتضمن المشهد موقف لفلاحة مصرية تودع أحد أبنائها بعد أن تحفظت عليه قوات السلطة لإرساله ضمن فرقة السخرة، والتقط سيد درويش من بين حديثها الحزين جملة “يا عزيز عيني” ليؤلف لحن لأغنية بهذا الاسم، ظل حضورها باقيا إلى يومنا هذا بتنوعيات مختلفة للحن واحد.
وأوضح التميمي أن الفنانة نعيمة المصرية غنتها في إطار مختلف بحذف جملة من اللحن، كذلك حضرت الأغنية في مشهد كوميدي للفنان عادل إمام في فيلم “لصوص لكن ظرفاء” كان بعيدة تامًا عن سياقها الأصلي.
كما أدى الأغنية الفنان روبرت تايلور ضمن أحد مشاهد فيلم ” وادي الملوك” الذي تم تصويره بمصر في الخمسينيات وشارك به الفنان رشدي أباظة.
– الفيلق المصري.. من طين الدلتا لثلوج أوروبا والشام
وأكمل التميمي عرضه لأرشيف الفني الموثق لتلك المرحلة، مع مشهد الشهير من فيلم “الأرض” الذي أبدع من خلاله الكاتب عبدالرحمن الشرقاوي في نصه كما أجاد الفنان محمود المليجي في التعبير عن تلك المأسأة بأدائه الفذ، حيث يستعرض الفلاح محمد أبو سويلم مشاركته في الحرب العالمية بالشام ودفنه لرفاقه وسط الثلوج.
وفي السياق ذاته، قام أبانوب زكريا، بتقديم فقرة تمثيلة جسد من خلالها دور الراوي لأخد العمال المصريين العائدين من الحرب العالمية الأولى، مستفيضًا في تفاصيل المشاهد العصيبة التي عايشها من الدفع بهم لإحدى البلدان الفرنسية وإرهاقهم في أعمال شاقة بلغت بأحد رفاقهم بأن لقي حتفه، ولم يستطيعو دفنه وتغسيله وإقامتهم لجنازة رمزية لوداعه.
وتناول الدكتور محمد أبو الغار، قضية الحضور المصري في الحرب العالمية الأولى من خلال ما بذله الضحايا من الفلاحين البسطاء وذلك في كتابه بعنوان “الفيلق المصري.. جريمة اختطاف نصف مليون مصري” الصادر عن دار الشروق في مطلع عام 2023.
وقال أبو الغار عن دوافعه لتأليف الكتاب، إن هذه الأحداث لم تكن معروفة لأجيال من المصريين “ولم يكتب عنها الكثير إلا السنوات الأخيرة مع الذكرى المئوية لثورة 1919، ووضحت التفاصيل المرعبة في الوثائق البريطانية التي أظهرت أن أكثر من نصف مليون فلاح مصري قد انضموا للفيلق، بينما كان تعداد مصر 12 مليونا فقط”.
تتبع أبو الغار يوميات الفيلق من خلال مراسلات ملازم في الجيش البريطاني يدعى فينابلز كان مسئولا عن قيادة آلاف الفلاحين المصريين، وكتب سلسلة خطابات إلى أحد أصدقائه دون فيها ملاحظات عامة ووقائع خاصة مع بعض العاملين بالفيلق، وهي الخطابات التي تستقر حاليا في المتحف الحربي البريطاني.
ومما جاء في أحد هذه الخطابات “تعرض 600 فلاح من المصريين القادمين للتو من مصر لعاصفة شديدة وهو شيء لم يروه من قبل في حياتهم في مصر، وكلهم أصابهم البلل الشديد وقالوا إنهم يريدون أن يلقوا بأنفسهم بجانب الطريق وينتظروا الموت، لكن الضابط أجبرهم على المشي قدما في الطين بدون أكل واستخدم بعض العنف لدفعهم إلى الأمام، وقال الفلاحون إنهم يموتون وكانوا يتساقطون على الأرض”.
وتحدث المؤرخ الأمريكي كايل جون أندرسون، عن تجربته البحثية التي أنتجت كتابه “فرقة العمال المصرية: العِرق والفضاء والمكان في الحرب العالمية الأولى”، والذي مثل رسالته لنيل درجة الدكتوراه، بأنها بدأت مع زيارة لمصر في عام 2014 وكانت السنة التي يتزامن معها مرور 100 عام على الحرب العالمية الأولى، ووجد أن قصة العمال المصريين الذين شاركوا ضمن الحرب منسية ولم يتم تناولها بالقدر الكافي، وأشار إلى أن كان من السهل العودة لوثائق لتلك المرحلة بالأرشيف البريطاني والمكتبة البريطانية ومتحف الحرب الإمبراطورى في لندن، لكن التوثيق المصري لتلك الفترة كان مصدرًا لابد منه في إكماله لدراسته.
وأشار أندرسون إلى بعض الصعوبات التي واجههته في الحصول على تصريح بالاطلاع بدار الوثائق القومية، إلى أن طلبه قوبل بالرفض من وزارة الثقافة، ليقرر زيارة دار الكتب المصرية ويجد في أرشيف الصحافة المصرية القديمة مادة جيدة، فضلاً عن لقاءات جمعته بباحثين مصريين كانوا مهتمين بموضوع فيلق العمال المصري على سبيل المثال لطيفة سالم “وصفها بأم المؤرخين في مصر”، وأشرف صبري وآخرين.
وذكر أندرسون مشكلة أخرى واجههته وقد تواجه أي باحث في قضية “فرقة العمال المصرية” أن شهود تلك الأحدث من العمال المصريين لم يوثقوها أو يكتبوا عنها، نظراً لأن معظمهم أميين لا يعرفوا الكتابة، ما يجعلنا نعتمد على مصادر أخرى وهي الأصوات مثل الأغانى الشعبية “يا عزيز عيني” التي سجلتها نعيمة المصرية عام 1915.
ولفت أندرسون إلى أن ما توصل إليه في السجلات الراوية لتلك المرحلة أن العمال المصريين كانوا يختلفون عن غيرهم من عمال السخرة الذين جلبتهم بريطانيا من كل مناطقها الاستعمارية مثل الهنود وغيرهم، حيث كانوا الأكثر تمردا واعتزازا بالكرامة رغم تلك الظروف.
ومنح محمود كامل عضو مجلس نقابة الصحفيين ومقرر اللجنة الثقافية، درع النقابة للمؤرخ الأمريكي كايل جون أندرسون، مقدما له الشكر على تجربته البحثية في الاهتمام بمرحلة مهمة من التاريخ المصري المعاصر، مؤكاً أن مكتبة النقابة ترحب به في أي وقت للاطلاع على الكتب والمصادر التاريخية من دوريات تعود لزمن الثورة العرابية، والتي قد تساعده في مشروعاته البحثية المقبلة.
كما أهداه الكاتب الصحفي محمود التميمي نسخة من موسوعة “القاهرة في ألف عام” التي صدرت في عام 1969 للاحتفال بألف عام على بناء مدينة القاهرة، والتي تعبر عن حضور القوى الناعمة المصرية رغم الظروف السياسية الصعبة، حيث طبعت تلك الموسوعة وصدرت بعد وقت قليل من نكسة يونيو 1967.
-من الدار للنار
وقال الدكتور شكري مجاهد، مترجم الكتاب وحفيد أحد العمال المصريين المشاركين في فرقة السخرة البريطانية، إنه شهد أول معايشة لمأساة فرقة العمال قبل سنوات طويلة من ترجمته لكتاب المؤرخ الأمريكي أندرسون، إذ كانت في أسماعه دائما حكاية جده بأنه كان ضمن مجموعة سخرة عملت في مارسيليا الفرنسية، كذلك كان وصف جدته بأنهم أخذوا جده من الدار إلى النار وهو ما تطابق مع وصف أندرسون فكان عنوان الفصل الثالث “from home to the front من الوطن إلى الجبهة”.