أخبار مصر

نبيل فهمي يكتب: مرحلة اللافهم في الساحة الدولية

تعقد منذ شهور العديد من الندوات والمؤتمرات والحوارات المغلقة، نصفها تقريبا عن النظام الدولى القادم، والنصف الآخر عن الشكل الجديد فى الشرق الأوسط، و هناك عناصر مشتركة فى الموضوعين، وعلى رأسها أن الأوضاع الدولية فى مرحلة تغير وتطور الآن وخلال المرحلة القادمة، وهناك شبه توافق كذلك على أننا سنشهد بروز قوة جديدة، تضاف إلى ــ أو على حساب ــ الزيادات التقليدية، وبات واضحا عدم وضوح الرؤية على المستوى الدولى والإقليمى بالنسبة للسياسات والأحداث القادمة، وهل تتبنى الدول الريادية فيها سياسات نشطة تدخلية وتفاعلية على المستوى الدولى الإقليمى، أم تميل نحو الانكماش والانعزال بقدر الإمكان، والتركيز فقط على المصالح الوطنية الجوهرية والمباشرة.
وفى ضوء الأوضاع الاستثنائية التى نمر بها دوليا وإقليميا، لعله من المناسب الخروج عن النمط التقليدى بطرح المبررات قبل الإسهام بآرائى، وأبكر بطرح أهم خلاصة من ملاحظاتى بعد مشاركاتى ومتابعاتى المختلفة للعديد من هذه المحافل والمناسبات، ألا وهى أننا دوليا وإقليميا نمر بمرحلة تناقضات ممتدة، من حيث من هم أصحاب الريادة، و سياساتهم، ومواقفهم وممارساتهم، ومن الواضح أننا بمرحلة مخاض وتشكيل.
وهناك مؤشرات كثيرة وممتدة ومواقف متناقضة وغير منطقية، ترجح أننا وصلنا حاليا الى مرحلة اللافهم، وأركز اليوم فقط على الوضع الدولى، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر أنه منذ ظهور نظرية العولمة والموضوع يثير الكثير من الجدل والآراء المتضاربة، ودفع العالم الغربى فى البداية بأنها وسيلة مثالية لاندماج المجتمعات، وهو ما يعد مؤشرا واضحا على تميز وتفوق الفلسفات المجتمعية الغربية الليبرالية، وتحديدا ما يخص الحقوق الشخصية للفرد، فضلا عن أنها أفضل وسيلة لضمان كفاءة أداء اقتصاديات السوق ووصول السلع للمستهلك بأقل سعر وأعلى هامش ربح للمصنعين.
وفى أول الأمر استقبل ترند العولمة بإيجابية، حتى من بين أعداء ومنافسى الغرب فى الاتحاد السوفيتى والصين، حيث تزامن ذلك مع مرحلة إصلاحية لديهم ما بعد الحرب الباردة فى الاتحاد السوفيتى والثورة الثقافية فى الصين، والتى شهدت تحولات اقتصادية كبيرة فى البلدين، فى حين استشعر العالم النامى أن العولمة سمة من سمات الاستعمار الحديث، يتحقق من خلال آليات اقتصادية متطورة، ويغلب مصلحة الكيانات الاقتصادية الكبرى متعددة الأطراف ويخنق ويقتل الكيانات الصغيرة والمتوسطة، والمنتشرة بمعدلات أوسع فى الدول النامية.
ومع تعدد التجارب والأحداث تغيرت وتشكلت الكثير من الرؤى تجاه المنظومات الاستهلاكية الكبرى والعولمة بشكل خاص، فأصبحت هناك قناعة عالمية متنامية أننا نعيش ونتقدم أو نفشل سواسية، ومن ثم علينا دائما إعطاء مزيد من الاهتمام بالتنمية المستدامة للكل ومراعاة تاثير العجلة التنموية على البيئة والمناخ والمصادر المائية وغير ذلك، وأن المعادلات الصفرية هى إنجازات قصيرة الأجل فى الكثير من الأحيان على حساب المصلحة العامة فى الأمد الطويل وحتى متوسط المدى.
ورغم كل المحاذير والكلفة الاجتماعية بدأت الدول النامية تنظر للعولمة بمزيد من الإيجابية مع تجاوز عدد غير قليل خط الفقر العالمى وخلق عدد هائل من الوظائف.
ومع مرور الوقت وتعدد التجارب احتدت التحفظات الروسية والصينية وقلقها من أن آليات العولمة الاقتصادية الغربية هى غطاء سياسى واجتماعى لمحاولة فرض الهيمنة السياسية الغربية على النظام الدولى وبرز ذلك بشكل خاص مع مرحلة القطب الأوحد الذى تلت الحرب الباردة، ووجدت تيارات سياسية غربية تحذر من الانفتاح المتزايد على العالم وتبنى السياسات الاقتصادية.
و كانت الحرب الأوكرانية من تداعيات المتناقضات والتضاربات الدولية الحديثة، والتى قضيت على أكذوبة أن الساحة الأوروبية هى ساحة سلام وحوار، وأنها منذ الحرب العالمية الثانية تجاوزت بلا رجعة المواجهات والصدامات العسكرية، ونحن الآن بأوكرانيا فى مرحلة يدعى فيها كل طرف أنه يحقق نتائج ايجابية، فى حين تعكس النتائج أن الوضع على الأرض الأن أسوأ بكثير مما كان عليه قبل اندلاع المعارك، فى روسيا لم يفرض عليها الغرب الانسحاب من الأراضى التى احتلتها، وتواجه روسيا الآن على حدودها كدول مجاورة عددا أكبر من الدول الأعضاء فى الحلف الأطلنطى بعد انضمام فنلندا والسويد، وتغيير بوتين لبعض قياداته العسكرية أخيرا فضلا عن المسرحية الكوميدية الخاصة بقيادة مؤسسة فاجنر العسكرية هى مؤشرات اضطرارية وضبابية.
وكانت هناك أحداث و تطورات مفاجئة فى الساحة الأوروبية اعتبرت بعضها ردود فعل لأحداث متنوعة مثل تحديات العولمة والرغبة فى الحفاظ على الهوية الوطنية، ومنها ضغوط نزوح اللاجئين إلى أوروبا، أو تداعيات الحرب الأوكرانية التى نمت الاستقطاب ضد روسيا من ناحية، والانعزالية من الناحية أخرى، وقد تكون هذه الأحداث هى السبب فى العديد من المواقف الأوروبية التى تبدو متناقضة، منها تنامى التيارات اليمينية فى الكثير من الدول الأوروبية الغربية، وخلال انتخابات البرلمان الأوروبى، وهى ما دفعت رئيس فرنسا للدعوة الى عقد انتخابات برلمانية فرنسية سريعة، انتهت عكس توقعاته بتفوق التيار اليمينى، وقد نسب ذلك الفشل إلى أن الحملة الانتخابية لتجمع ماكرون ركز اكثر من اللازم على مواقفه القوية ضد بوتين فيما يتعلق بقضية أوكرانيا، ويعقب ذلك دعوة رئيس وزراء بريطانيا الى انتخابات سريعة فى نهاية الاسبوع الماضى رغم أن استطلاعات الرأى العام فى غير صالح حزبه المحافظ.
وشهدنا تقاربا روسيا صينيا بغية موازنة الحراك الامريكى الغربى، وكذلك زيارات رئاسية روسية كورية لأول مرة منذ أكثر من عقدين من الزمن نظرا لحساسيتها غربيا وصينيا، التى كانت لها دور مميز مع كوريا الشمالية، وشهدنا توترات صينية آسيوية، فضلا عن توترات حتى فى أمريكا اللاتينية بين البرازيل والأرجنتين أكبر الاقتصادات بالمنطقة لجنوح كلاهما فى اتجاهات مضادة وصلت إلى تجنب الرئيس البرازيلى عقد لقاء مع رئيس الأرجنتين المنتخب يمينى التوجه.
و هناك تساؤلات عديدة عن الوضع الأمريكى، فى ضوء عدم وضوح توجهات المجتمع الأمريكى فى القرن الـ٢١، والانتخابات امريكية رئاسية خير دليل على الارتباك، وتعقد بين مرشح يشك الكثيرون فى قدراته على أداء وظيفته لأسباب عمرية صحية، ومرشح آخر متهم وحكم عليه فى العديد من القضايا، فضلا عن الشك اهتمامه بالقضايا العامة من الأساس، وأيا كانت النتيجة بينهم او بين تغيرات مفاجئة فى الأسابيع القادمة .
وكانت هناك مواقف دولية متناقضة من دول العالم الداعمة للقانون والحقوق والتى ترفع راية الحرية وحقوق الإنسان من الأحداث الدموية فى غزة والجرام الإسرائيلى ضد الأبرياء بها، تناقضات وتجاوزات سيكون لها انعكاس واضح وسريع على المعدلات والنظام الدولى المعاصر فى المرحلة القادم.
وليس من من المبالغة وصف ما نمر به الآن من أنها مرحلة لا فهم لصعوبة وضع تقديرات مكتملة، مرحلة حساسة، تستدعى التريث والاحتياط والحسابات الدقيقة لخطوات محددة ومحسوبة، تمهيدا لما هو قادم من فرص وتحديات.

والمزيد عن إعادة تشكيل الشرق الأوسط فى مقال قادم ومخصص لمنطقتنا المضطربة

نقلا عن: إندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *