بعد عرضه في أسبوع جوتة للأفلام..«باي باي طبريا» حيلة الإنسان الفلسطيني بالأرشيف والذاكرة للتغلب على الاحتلال
في حضور كامل العدد داخل سينما معهد جوتة، بوسط البلد، عرض الفيلم التسجيلي الفلسطيني “باي باي طبريا”، للمخرجة لينا سويلم، ضمن فعاليات أسبوع أفلام جوته الممتد في القاهرة حتى 23 من الشهر الجاري، وقد اتخذت تلك الفعاليات من الأرشيف والذاكرة عنوانا عريضا لها.
ويسلط برنامج الأفلام العربية، الذي صممه المخرج بسام مرتضى تحت عنوان “من العائلة..للوطن”، الضوء على موضوعات الأرشيف والذاكرة التي لعبت دورًا محوريًا في صناعة الأفلام العربية في العامين الماضيين، تشمل المجموعة المختارة أفلاماً مصرية ولبنانية وليبية وفلسطينية وسودانية ويمنية.
وعرض الفيلم الفلسطيني الأول “الحياة حلوة” يوم 19 سبتمبر الجاري، وكان “باي باي طبريا” ثاني الأفلام الفلسطينية المعروضة في البرنامج العربي.
-الذاكرة والأرشيف قضية الإنسان الفلسطيني الأولى
المتتبع لكثير من الأفلام الفلسطينية سوف يجد فيها عاملا مشتركا لا يمكن التغافل عنه وهو ما يمكن تسميته بـ الأرشيف/الذاكرة، التوثيق والاهتمام بكل تفاصيل الحياة بالكتابة عنها أو تسجيلها أو الاحتفاظ بالصور القديمة والخطابات والأوراق وكل أقصوصة ربما تروي موقف أو حكاية ما، وكأنهم يمنعون رائحة فلسطين وتاريخها من أن يمحيها الزمن.
يلعب الأرشيف دور البطولة في فيلم باي باي طبريا، إلى جوار بطلاته الرئيسيات الأم هيام والابنة لينا –مخرجة الفيلم أيضاً- حيث تروي لينا قصة عائلتها، و4 أجيال من النساء الفلسطينيات اللواتي عشن الشتات منذ عام 1948.
وظفت لينا جميع أدوات اللغة السينمائية المرئية لصالح هذه الحكاية الطويلة، التي امتدت سنوات ومازالت تتكرر مع أجيال جديدة من الفلسطينين حيث التهجير المستمر بكل الصور في أنحاء متفرقة من البلاد، بداية من الصور الفوتوغرافية والفيديوهات المنزلية الخاصة داخل مدينة طبريا قبل العدوان، وقصائد هيام الشعرية، والحوار المباشر مع الشخصيات الفيلمية والصور والفيديوهات التوثيقية لفلسطين ما قبل النكبة وما بعدها، حيث يمتزج الخاص “العائلي” بالعام “شكل المدينة بعد العدوان” بطريقة سينمائية ساحرة ويرسم لوحة كاملة من الحياة النابضة مروراً بالتدمير والتهجير وشكل الحياة الجديدة تحت سطوة الاحتلال.
تختفي لينا وراء الكاميرا، ولا يظهر إلا صوتها، وبعض اللقطات المصورة القديمة لها في أول زيارة لمدينة طبريا بعد ولادتها في باريس، وهي تسبح في بحيرة طبريا مع هيام، وكأن الأم تغمر طفلتها برائحة المدينة ومياهها بعد غياب، وبعض اللقطات السريعة الأخرى، وتترك لينا المساحة للنساء الأخريات لكي يروين الحكاية لأنهن من يمتلكنها، بينما هي زائر عابر للمدينة بين الحين والآخر.
تبدأ الحكاية من الجدة الكبرى، جدة هيام، وهي السيدة أم علي، التي وجدت نفسها لا تملك شيئاً غير ماكينة خياطة قديمة و8 أبناء مسئولة عن تربيتهم بعد وفاة زوجها، عندما جاء عام 1948 وحلت النكبة، نزحت أم علي وزوجها حسني إلى الحدود مع لبنان، بينما نزحت ابنتها حسنية وزوجها إلى الحدود مع سوريا، وفرقت السبل بينهما، رفض حسني استكمال مسيرة النزوح وقرر العودة إلى دياره، فلم يجد أي منها قائماً، قد هدم الاحتلال كل شيء، ففقد عقله وظل يسأل المارة “هل رأيت منزلي؟ هل رأيت حماري؟ هل رأيت بقرتي؟” حتى رحل من شدة الحزن وترك زوجته تواجه المعيشة والاحتلال.
أما الجيل الثاني هي نعمات والدة هيام، والتي جاءت النكبة عليها وهي في عمر 16 عاماً، وداقت التهجير مع أهلها ثم العودة السريعة، إلى دير حنا في جابليا، حيث تزوجت وأنجبت 10 أبناء من بينهن هيام، وكن يعشن جميعهن في منزل صغير للغاية.
ثم تأتي هيام ممثلة عن الجيل الثالث، الذي عاش تحت وطأة الاحتلال وكل ما يمارسه من أساليب غير إنسانية، فقررت كسر القواعد وكل ما يريده والداها واختارت تعلم التصوير بدلا من المحاماة، ثم الهجرة إلى باريس لتعلم التمثيل.
ولينا هي الجيل الرابع في هذه الحكاية، فتاة نصفها جزائري ونصفها فلسطيني وإقاماتها فرنسية، حملت في ذاكرتها حكايات الاحتلال وأرشيف عائلتها من الطرفين، فصنعت فيلمها الأول “جزائرهم” عن جدها وجدتها الجزائريين، تحمل لينا حكايات الشتات والفراق والألم، وكأنها انسان يعبر عن كل مآسي الاحتلال الغربي وما فعله بالعالم العربي، فرد واحد في هذا العالم تعتبر ذاكرته خزانة من الأرشيف المتراكم يمكن من خلالها رواية حكاية كبرى عن القهر الممتد على مدار عقود من الزمان ولم يتوقف.
رغم حدة الأحداث وألمها الشديد إلا أن لينا لا تغفل أنها مخرجة تحاول صناعة التوازن في فيلمها، لذلك لا يخلو أبداً العمل من لحظات المرحة والمزاح بين لينا ووالدتها أو الجدة قبل رحيلها، ولعبت الصور الفوتوغرافية دوراً مهماً للغاية في هذه الحكاية، لأننا نرى من خلالها الأبطال في شبابهن قبل أن ينحت الزمن ومرارته الحزن على وجوههن.
ويشترك هم رواية الأرشيف وحرب الذاكرة في كثير من الأفلام، مثل الحياة حلوة لـ المخرج محمد جبالي، أو عايدة للمخرجة كارول منصور، والتي تعود من عالمها الجديد إلى حيها في حيفا لتروي قصة الأم التي ماتت في الشتات بعيداً عن وطنها، تمارس من خلاله المخرجة حق العودة من خلال رماد والدتها الميتة وتدفنها في منزلها القديم الذي هٌجرت منه عام 1948.