مصطفى الفقي يكتب: الشرق الأوسط.. أوهام الماضى وأحلام المستقبل!
شاعت قصة رمزية تعبر عن اضطراب تفكير أطراف الصراع فى الشرق الأوسط، وهى أن عقربًا حمل نحلة من شاطئ إلى آخر ودار بينهما حوار وهما يعبران المياه لكن لدغته النحلة فرد عليها العقرب بالمثل وغرق الاثنان المعتدى والمعتدى عليه، إن معضلة الشرق الأوسط تفوق اليوم كل التصورات، وتضع رقمًا قياسيًا جديدًا لطول مدة الصراع وتعدد أطرافه وعمق الكراهية بينها، فالذين وعدوا اليهود بوطن قومى فى فلسطين هم أكثر الناس إدراكًا لحجم الجريمة التى ارتكبوها تحت مسمى النظر بعطف إلى آمال اليهود وتطلعهم إلى وطنهم القومى المزعوم، والذى يتأمل تطورات ذلك الصراع سوف يدرك أن كل الأطراف قد ارتكبت أخطاء حتى من جرى الاعتداء عليه واحتلال أرضه وإزاحته من وطنه، بحيث أضحت المشكلة معقدة ومركبة ومتعددة الجوانب، وأصبحت دول المنطقة بلا استثناء مطالبة بأن تدفع ثمنًا لذلك الصراع الدامى حتى لو كان ذلك بدرجات متفاوتة، ولقد عشنا وعاش جيلى كله بل ربما أيضًا الجيل الذى سبقه وجيل ثالث يتلوه على أمل حسم الصراع والقبول بمنطق التعايش المشترك وتوقف إسرائيل عن تبنى سياساتها العنصرية الهمجية الخرقاء وأساليبها الاستيطانية العدوانية التى لم تتوقف على امتداد ما يزيد على قرن كامل بل نضيف إليه أيضًا عشرات السنين منذ مؤتمر بازل 1897 حتى يومنا هذا، ولعلنا نجمل المراحل التى تقع تحت الملف الكبير لذلك الصراع الطويل بين الفلسطينيين واليهود أو بين العرب ودولة إسرائيل فى النقاط التالية:
أولًا: مع بدايات الدعوة إلى إقامة كيان صهيونى تحت مسمى «دولة» يجرى اعتبارها نواة لوطن قومى فى إسرائيل لم يلتفت العرب إلى ذلك الأمر من البداية، واعتبره الكثيرون جزءًا من نزاع الطوائف داخل أقطار دول المشرق العربى، وهو أمر اعتادت عليه بعض الطوائف فى مراحل سابقة، ولكن الأمر تطور ودخلت بريطانيا على خط المواجهة فى 2 نوفمبر عام 1917 حين نظر وزير خارجيتها بلفور نظرة العطف البريطانية على آمال الشعب اليهودى فى الشتات، وكان ذلك فى غضون اتفاقية سايكس بيكو بتقسيم مناطق النفوذ بين بريطانيا وفرنسا فى الشرق الأوسط، وهى التى ظهرت معها خريطة جديدة لدول عربية برزت بعد الحرب العالمية الأولى وهزيمة الأتراك وإخفاق المشروع العربى للشريف حسين، وظهور عدة عروش هاشمية بقيت منها المملكة الأردنية الهاشمية بتألقها ودورها الحيوى فى المنطقة، وأنا أستدعى هذه المحطات لكى يتبين الجميع أن إسرائيل قفزت فوق الزمن وحاولت انتزاع ما ليس من حقها والسطو على أرض غيرها ودفعت بأطروحات يختلط فيها الخيال مع الحقيقة معتمدة على أوهام الماضى وتزييف التاريخ وتشويه المسار الإنسانى لواحدة من أقدم مناطق العالم، وهى منطقة الشرق الأوسط مستخدمة شعارات توراتية وأساطير عبرانية تزحف كلها لتلتهم حقوق الآخرين، وتعلن نفسها صاحبة السيطرة العليا والكلمة الأولى على أرض فلسطين العربية، ضاربة عرض الحائط بالمقدسات الإسلامية والمسيحية فضلًا عن ترهيب البشر وترويع الآمنين وزرع بذور الفتنة على مسار التاريخ فى العقود الثمانية الأخيرة.
ثانيًا: جاءت بعد ذلك مرحلة المواجهة التى حاولت فيها الحركة الصهيونية لى ذراع الحقيقة وتطويعها لخدمة الأهداف طويلة المدى للدولة العبرية، ولم يقبل الفلسطينيون المساس بأرضهم والاستيلاء على تراثهم وسرقة وطنهم، فبدأت ثوراتهم بالاشتعال بفورات وانتفاضات منذ عشرينيات القرن الماضى واتخذت شكلًا داميًا فى ثلاثينياته حتى أطلت النكبة بوجهها الكئيب بعد قرار التقسيم وإعلان قيام دولة إسرائيل التى باركت ظهورها الدول الكبرى بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتى حينذاك بالإضافة إلى مجموعة الدول الغربية المتعاطفة تاريخيًا مع الحركة الصهيونية والداعمة بشكل مطلق لقيام دولة صهيونية فى قلب الوطن العربى، وبدأ العرب فى حالة استيقاظ متأخر لمواجهة أغرب الأعداء الذين يناصبون الشعب الفلسطينى العداوة بخطاب كراهية عميق لا يخلو من رتوش الماضى وأدران عصور الظلام التى سرق فيها اليهود وطنًا وشردوا شعبًا وهدموا المنازل على رؤوس سكانها بل وأصبحوا ينكرون على الفلسطينيين حق الحياة، فى مشهد إرهابى مقيت اهتز له وجدان الإنسانية، ولقد كنت شخصيًا فى زيارة لمدينة لندن التى درست فى جامعتها وعملت فى السلك الدبلوماسى بها، وراعنى كثيرًا ونحن نتجول فى شوارع المدينة أن معظم الطرق مغلقة وهدير الهتافات يصك الآذان لكى أكتشف أنها مسيرات للتعاطف مع الشعب الفلسطينى وأطفاله القتلى ونسائه الثكلى بعد مشاهد مرعبة استمرت لما يقرب من عام كمل حتى الآن، ورئيس حكومة إسرائيل يعربد وجيشها يمارس المزيد من العدوان والاغتيال العلنى وتنفيذ الإعدامات بدم بارد فى الشوارع والأزقة الفلسطينية، وتفجير الأجهزة الإلكترونية لتقتل أصحابها وتهجير مئات الألوف من موقع إلى آخر فى رحلة نزوح لا يتوقف، يحملون فيه المتاع القليل ويفترشون الأرض، ويلتحفون السماء دون طعام أو ماء، إنها مأساة العصر وأحزان ملايين البشر فى سابقة لا نظير لها فى العالم المعاصر.
ثالثًا: إذا أردنا تحليل الحاضر لكى نقيم المستقبل فإنه يتعين علينا أن ننتقل من أوهام الماضى إلى تحقيق وقائع العصر وحقائق المجتمع الدولى وأبعاده المختلفة، فالرواية لم تتم فصولًا ولا تبدو أمامنا فى المنظور القريب أمور تدعو إلى التفاؤل أو تسمح بتحقيق الغايات المشروعة للشعب الفلسطينى، وإذا كان الكل يتشدق بحل الدولتين، وهو الذى يرفضه نتنياهو وحكومة اليمين المتطرف فإننا نقول صراحة إن أقرب الحلول إلى العدل هو قيام دولة واحدة تضم العرب واليهود على قدم المساواة، وتسمح بالتداول العادل للسلطة والتناوب السياسى فى الحكم، بحيث تكون دولة ديمقراطية كاملة لا تعرف التمييز بين مواطنيها ولا التفرقة بين أبنائها بل تمضى مع روح العصر تحترم الشرعية الدولية وتقبل بمفهوم التعايش المشترك، وقد يقول قائل إنها أضغاث أحلام، فمن ذا الذى يستطيع أن يضع الأمور فى نصابها، ويقيم موازين العدل على الأرض الواحدة التى تحترم الوجود الفلسطينى التاريخى الراسخ إلى جانب التواجد الإسرائيلى الزاحف فى غفلة من الزمن وغياب للرؤية وتلويث للحقيقة.
رابعًا: إن الدول العربية يجب أن تدرك أن محاولة التهام فلسطين سوف يكون البداية وأكرر مع كتاب كليلة ودمنة على لسان الثور الأسود عندما قال (أكلت يوم أكل الثور الأبيض)، فالحركة الصهيونية حركة عنصرية عدوانية تمثل نمطًا خاصًا من الاستعمار لا نكاد نعرف له نظيرًا بين أمم الأرض وشعوب العالم، فالمأساة مستمرة والظلم واضح وسياسة الكيل بمكيالين فى عصرنا الذى هو عصر تحكمه موازين القوى وليس عصرًا تحكمه شريعة الحضارة وفكر الإنسان الذى لا يتوقف عن التجدد والتحضر والرقى، حتى ولو ساد الظلام طويلًا، وغابت الحقيقة لعدة عقود، إلا أن مهرجان الفجر يأتى ذات يوم، وتشرق الشمس على دولة جديدة يعيش كل أبنائها فى مساواة بمنطق المواطنة دون فروق بسبب جنس أو لون أو عقيدة. دعنا نتطلع إلى ذلك اليوم الذى تتحول فيه دماء شهداء غزة وأشلاء أطفالها إلى قوة دفع جديدة تنير الطريق أمام شعوب الشرق الأوسط نحو مستقبل واعد تتحقق فيه الآمال ويتحقق السلم والأمن الدوليان، وينتهى ذلك الصراع على أسس راسخة وأعمدة قوية متينة تسمح له بالازدهار والاستمرار وتتيح له ديمومة الحياة.. هذه خواطر أبناء الحضارات المتعاقبة والديانات السماوية والأوطان التى عرفت دائمًا الشرائع البشرية قبل غيرها على مسرح الكون الفسيح، فهل ينتهى هذا الصراع يومًا؟.. دعنا ننظر إلى السماء!