بيت الورود الساحر الذي استقبل الزعماء والقادة.. زيارة لمزرعة محمد حسنين هيكل في برقاش
اكتمل مرور 101 عام على ميلاد الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل، في 23 سبتمبر، والذي لا تزال سيرته وتاريخه حاضرين في ذاكرة الصحافة العربية، كونه على رأس المساهمين في إثرائها بمقالاته ومؤلفاته وأحاديثه التلفزيونية.
ولد هيكل في 23 سبتمبر 1923 لأسرة من الطبقة المتوسطة، حيث كان الجد والوالد يعملان في تجارة الحبوب والغلال بحي الحسين العريق.
وخلال دراسته بالجامعة تعرف هيكل، على سكوت واطسون، الذي كان يتولى تدريس مادة الصحافة، والصحفي بجريدة “إجيبشان جازيت”، واستطاع عن طريقه أن يعمل محررًا بقسم الحوادث في 8 فبراير عام 1942، وكان وقتها عمره 19 عامًا، ومع اشتعال الحرب العالمية الثانية وامتداد معاركها لتشمل العالم، وقع على هيكل الاختيار للذهاب إلى العلمين لتغطية أحداث الحرب واستطاع أن يحقق نجاحًا كبيرًا في مهمته.
وفي ذكرى ميلاد الأستاذ، نطل على جانب من حياته الشخصية بزيارة لمنزله الريفي في برقاش، وهو المكان الذي كان مفضلا وأثيرا لديه في أوقات الاستجمام مع عائلته وأصدقائه، فضلا عن شهادته على لقاءات جمعته بكبار قادة الشخصيات السياسية.
ووثق الكاتب الصحفي طارق فريد زيدان، انطباعاته وتفاصيل لقاء مع الأستاذ هيكل في زيارة لمزرعة برقاش في كتابه “الجورنالجي وكاتم الأسرار.. محمد حسنين هيكل ومصطفى ناصر” الصادر عن شركة المطبوعات للنشر والتوزيع.
يقول فريد زيدان: “في شتاء عام 2012 ومن مطار بيروت حملت معي بعضا من المكسرات اللبنانية التي كان يعشقها هيكل، من فستق حلبي وجوز ولوز وغيرها. إلا أن هذه الرحلة تتضمّن الكثير والكثير. ففيها زيارة برقاش منزل هيكل الريفي، والمزرعة أو الصومعة الخضراء، كما كان يصفها الرئيس السادات”.
ويصف زيدان المنزل، بأنه “يحوي الكثير من القطع الفنية والكتب والوثائق. والأهم من ذلك كله تلك العناية الفائقة للأستاذ هيكل بحدائق الزهور المترامية عند كل زاوية من أرجاء المزرعة، ليستحق البيت اسم بيت الورود”.
وتابع: “كان هيكل يحرص على زراعة الزهور وعلى عددها تقدمةً لزوجته السيدة هداية، أو كما يلفظها هيكل «هدايات». لكن بيت الورود الساحر هذا قد تعرّض للحرق، ولخسارة الكثير من تاريخ زوجين سعيدين ومن تاريخ مصر بما احتوى من وثائق نادرة. التقينا في بهو فندق الفور سيزونز في القاهرة، وجلست بجانب الرئيس إيلي الفرزلي (نائب رئيس مجلس النواب اللبناني) وهو الذي قاد حلقة نقاش عن آخر الأحداث المتتالية في سوريا بعد اندلاع نزاعات مسلحةعلى طول مساحة بلاد الشام.
* إجراءات اللقاء البرقاشي.
وواصل: “جلسنا نستمع إلى هيكل، أنا والأستاذ طلال سلمان وابنه أحمد في الوقت الذي كان فيه الأستاذ ناصر (الكاتب الصحفي اللبناني مصطفى ناصر) يتولّى ترتيب إجراءات اللقاء البرقاشي”.
ويكمل: “عاد الأستاذ ناصر إلينا داعيا الجميع إلى التوجه نحو السيارة الرباعية الدفع، والتي كان قد أستأجرها من الفندق فصعدنا إلى وسيلة النقل، والرئيس الفرزلي يواصل شرحه عن أن ما تواجهه سوريا هو هجمة تركية سلجوقية بقيادة أردوغان، وأنها تلبس لبوس الحرية والثورة. جلس الأستاذ ناصر في المقعد الأمامي بجانب السائق، ونحن في الخلف، وجلست أنا قرب النافذة أراقب الشوارع والمارة مستعيدا تفاصيل روايات الكاتب المصري نجيب محفوظ، وتحديدا روايته «أولاد حارتنا»، وقد كان في شرح الرئيس الفرزلي الكثير من زعماء الحارة وخناقاتهم، وكيف أن البلطجية موروث قديم في العمل السياسي في منطقتنا”.
* برقاش.. تراث مخزن وثائق هيكل
انطلق السائق من الفندق متوجها نحو قريةبرقاش، حيث منزل الأستاذ هيكل الريفي.
وبرقاش هي إحدى قرى مركز إمبابة في محافظة الجيزة قرية مصرية أصيلة اشتهرت بسوق الجمال ومزرعة هيكل. وقد شيد فيها الأستاذ هيكل قصره قبل عقود، واحتفظ بداخلها بأهم الوثائق التي دأب على جمعها. منها لقاءات مع الرئيس جمال عبدالناصر في حرب فلسطين عام 1948، وعليها بقعة من دمه، ومراسلات الزعيم المصري مصطفى كامل إلى السلطان العثماني والخديوي عباس حلمي وسواها من الوثائق والمراسلات.
ويواصل زيدان قائلا: “القرية المصرية برقاش جعلها منزل هيكل الريفي قرية عالمية. ففيها كان يزوره قادة ووزراء من شتى بقاع العالم. وكان لكل منهم حصة من التراث المصري الذي تضفيه القرية. ما أعاد إلى ذاكرتي رواية «أولاد حارتنا» وكيف أن الحارة جسدت العالم في سطور نجیب محفوظ، كما جسد هيكل برقاش قرية عالمية في منزله”.
وتابع: “عند الوصول إلى باب المزرعة أثبت هيكل مرة أخرى أنه من خامة اللوردات من البوابة العريضة تأخذك طريق محاطة بالزرع، منسقة بالزهور الموسمية في داخل حوض طويل ومتصل يسير معك حتى باب المنزل عند المدخل، والمدخل يجلس فوق تلة ترتفع بالسيارة الآتية باتجاه الباب، وحوض الزهور يرتفع معها بتناغم وانسيابية. يغطي المدخل سقف حجري ناتئ يقف على أربعة أعمدة لتستقر المركبة تحت السقف والشجر الأخضر يخرج من بين الحجر مضيفا كحلا إلى عين المنزل”.
وأكمل: “يدلنا هيكل على الصالة الداخلية، حيث تفوح رائحة الفخامة من دون تكلف أعمال فنية معلقة، وموقد نار تحضنهما جلسة بأثاثها الكلاسيكي. الديكور ريفي الطابع، وبعض الصور تزين جدران الصالة، وهي لضيوف زاروا القرية العالمية”.
وواصل زيدان: “رافقنا الأستاذ هيكل إلى شرفة أرضية خارج المنزل: أمامنا بحر من الزهور، من بينها زرع أخضر غامق يمرح بالهواء، كأنه موج يحط على الشاطئ الذي كنا نجلس فيه في منتصف البحر الزهري، وقف منزل صغير عتيق يحمل أسفارا وأخبارا كثيرة. وهو لا يقل بهاء عن بقية أنحاء المنزل، بل إنه يضيف رونقا إلى الرونق، وتاريخا إلى التاريخ”.
* عندما نام جيفارا في برقاش
ويذكر الكتاب أنه في هذا المنزل الصغير نام الثوري العالمي تشي جيفارا برفقة صديقته.
يروي هيكل وهو يضحك مستعيدا الحادثة. كيف انزعجت زوجته السيدة هداية من مبيت ضيفهم في منزلها مع امرأة ليست متزوجة به.
ثم شرح هيكل، كيف أن العلاقات في القارة الأمريكية الجنوبية البعيدة مختلفة في العادات، وأن الضيف رجل ثائر، في أقل وصف له.
* الرئيس أبو عمّار في ضيافة الصومعة الخضراء
ويقول زيدان: “أخذ الأستاذ هيكل المبادرة وبدأ بالكلام مسترسلا في وصف المزرعة كما كان يحب. قال: “قبل أسبوع كان علي لاريجاني، المستشار الخاص للسيد خامنئي يجلس هنا”. قال ذلك وهو يشير إلى المقعد الذي أجلس عليه، فضحك الأستاذ طلال ضحكته المعهودة، التي تظهر عينيه من مقلتيهما، وهو يهز رأسه مشيرا إلي أيضا. وللحظة وجدت نفسي محط أنظار الحاضرين. فما كان مني إلا أن بادرت الأستاذ هيكل سائلا إياه: “ومن غيري وغير لاريجاني كان يجيء لزيارتك هنا؟”.
وواصل: “ضحك هيكل، وضحك الرئيس الفرزلي أكثر، وكذلك فعل الأستاذ ناصر. ثم جاوب هيكل قائلا: “عرفات كان يحب يجي عندي في برقاش، وياما جاه وأبو مازن زارني مرات، السادات كان يعشق الجلسة في المكان اللي احنا فيه دلوقتي، وكان يحب برقاش للراحة والاستجمام، ويسميها الصومعة الخضراء”.
* لماذا انقطع عبد الناصر عن زيارة برقاش؟
يقول زيدان، إن “الأستاذ هيكل استمر في تعداد زواره على مدى سنوات، وأشار إلى أن عبد الناصر زاره في برقاش، إلا أن زياراته انقطعت. وعند سؤالي عن سبب انقطاعه أجاب هيكل: “عبد الناصر كان يقول أنت إما برجوازي من المدينة أو فلاح من القرية، لا إقطاع بعد اليوم عندنا”.
وتابع: “ثم أكمل هيكل حديثه بالتحدث عن نظرته إلى مستقبل بيته الريفي في برقاش، وكيف أنه يريد لهذا المنزل أن يكون إرثا عاما من خلال تحويله إلى مؤسسة فكرية، بالتعاون مع مبادرته في مؤسسة هيكل للصحافة ودعم الشباب”.