ذكرى ميلاد محمد حسينين هيكل.. تجربة الأستاذ المتفردة في الكتابة بالعربية والإنجليزية
تحل ذكرى ميلاد الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل، في 23 سبتمبر، حيث ولد على مقربة من مسجد الإمام الحسين في عام 1923.
وعن ذكريات السنوات الأولى بحي الحسين العريق، يقول هيكل: “تلقيت دروس تحفيظ القرآن، في مندرة جدي لأمي بحي الحسين مع أطفال العائلة، من الشيخ قاسم وكان الشيخ موظفًا مستديمًا لدى جدي، وكان من يحفظ جزءا كاملا من القرآن يجازى من الجد جزاءً حسنًا، فإذا ختم المصحف فنصيبه جنيه ذهبي، وكان يحضر معنا أحيانًا دروس القرآن بعض أطفال من بيوت جيراننا، ومنهم بيت الرافعي وبيت الرزاز”.
وتعد تجربة هيكل الصحفية ذات استثناء وخصوصية على أكبر قدر، حيث حاور أغلب الرموز السياسية والثقافية والفكرية في القرن العشرين، ومنهم عالم الفيزياء ألبرت أينشتاين، والقائد البريطاني الفيلد مارشال برنارد مونتجمري، والزعيم الهندي جواهر لال نهرو، وصدرت هذه المحاورات في كتابه “زيارة جديدة للتاريخ” الصادر عن دار الشروق.
ولم تكن التجارب والتحركات العالمية لهيكل تنتهي بتقديم كتاب أو مادة صحفية للقارئ العربي فحسب، بل استطاع هيكل أن يؤسس قاعدة متابعين وقراء من غير الناطقين بالعربية يترقبون كتابته ويتلهف الناشرون على حقوق طبعها وتوزيعها.
وتطرق الدكتور وحيد عبد المجيد في أحد فصول كتابه: “هيكل بين الجريدة والكتاب” عن تجربة هيكل في الكتابة المتمكنة باللغتين العربية والإنجليزية.
* مكانة استثنائية بين الكتاب العرب
يقول وحيد عبد المجيد: “تقاس أهمية الكاتب وما يكتبه بمؤشرات متعددة أهمها إقبال الناس على قراءته وبالتالى مدى انتشار كتاباته وحجم توزيع كتبه. ولكن نادرا ما تتاح فرصة لقياس مدى تمسك الناس بالكاتب وإصرارهم على أن يواصل الكتابة وجزعهم إذا أراد التوقف عنها، ولا يحصل على هذه المكانة لدى القراء عادة إلا قليل من الكتاب السياسيين في كل عصر. وإذا كان الأستاذ هيكل يعتز بالدور الذي قام به في مجال الصحافة، وبانتمائه الى هذه المهنة إلى حد أن لقب الجورنالجي هو الأحب إلى نفسه، فقد تجاوز إبداعه حدود المهنة والوطن معا . وليس أدل على ذلك من أن كتبه هي الأكثر توزيعا بين المطبوعات السياسية العربية، كما أن نسخها المكتوبة باللغة الإنجليزية تحظى بأفضل انتشار في الخارج مقارنة بغيره من الكتاب العرب”.
ويضيف عبدالمجيد:” فهناك مثقفون وأكاديميون عرب كثيرون مقيمون في أمريكا وبريطانيا، ويكتبون باللغة الإنجليزية. ولكن كتاباتهم لم تحقق انتشارا يقارب كتب هيكل، لأسباب أهمها أنها تعنى قارنا متخصصا في الغالب، ولذلك لم يستطع أى منهم أن يصل الى القاري العام الأجنبي الذي يخاطبه هيكل”.
* إعادة الكتابة وليست الترجمة..ما مصدر تفرد التجربة؟
ويشرح عبد المجيد تفاصيل تلك التجربة المتفردة بقوله: “ويقترن هذا الإنجاز بتجربة فريدة في نوعها لا مثيل لها حتى الآن، وهي الكتابة بلغتين مختلفتين ومخاطبة جمهورين متباينين. وهذه تجربة لا يعرف معظم قرائه عنها. ولذلك سألقي في الصفحات التالية ضوءا عليها من خلال إجراء مقارنة تفصيلية بين النسختين الإنجليزية والعربية لأحد أهم كتبه وهو المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل، والذي حمل بالإنجليزية عنوان Secret Channels وصدر عام 1996.
ويكمل: “وهذه تجربة فريدة لأن الكاتب هنا، يكتب كتابين في الموضوع الواحد، أو قل الكتاب نفسه مرتين إحداهما بالإنجليزية والأخرى بالعربية. فهو لا يترجم ما كتبه إلى اللغة الأخرى، وإنما يعيد الكتابة. وهذا هو مصدر تفرد التجربة، إذ المعتاد أن يكتب الكاتب بلغته الأصلية وتجرى ترجمة الكتاب الى لغة أخرى”.
ويعرض نماذج لذلك: “وقد حدث هذا بالفعل في بعض كتبه التي كتبها في النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين حين كان ممنوعا من النشر في مصر بسبب خلافه مع الرئيس الراحل أنور السادات. فكانت كتبه تصدر في الخارج ثم تترجم بواسطة غيره. ولم يكن قادرا على التحكم في عملية ترجمة هذه الكتب رغم أن بعضها كان بالغ الأهمية مثل الطريق إلى رمضان عام 1975 والحل والحرب عام 1977”.
خريف الغضب.. عملية معقدة
ويستدرك عبدالمجيد: “ولكن عندما كتب كتابه الأكثر شهرة “خريف الغضب” بطلب من أحد كبار الناشرين البريطانيين وهو اندريه دوتش واجه موقفا يتسم بحساسية خاصة. وقد شرح الأستاذ هيكل، أكثر من مرة هذا الأمر، إذ كان السؤال المطروح في العالم كله هو كيف اغتيل الرئيس الراحل أنور السادات، وكان مضطرا الى تحليل جوانب سلبية في سلوكه السياسي والحديث ليس فقط عن خبايا الأحداث ولكن أيضا عما يسميه دخائل النفوس من خلال الاعتماد على التحليل النفسي في الكتابة السياسية، كما أنه كان مختلفا مع الرئيس السادات وخارجا من الاعتقال الذي تعرض له ضمن إجراءات سبتمبر 1981″.
ويضيف: “ولذلك كان تقديره أن حساسية الموضوع تقتضى حذرا شديدا حتى لا يساء فهم ما كتبه. فلم يكن ممكنا إذن أن يترك نقله إلى اللغة العربية لمترجم مهما كانت إمكاناته”.
وتابع: “فأراد منع حدوث أى التباس من جراء الفرق بين اللغتين، ولذلك قرر أن يقوم هو بهذه المهمة وأن يترجم الكتاب بمقدار ما يستطيع كاتب لا يتوقف عقله عن الحركة ليل نهار أن يترجم لنفسه. فمن الطبيعي أن ترد على ذهنه أفكار خلال عملية الترجمة هذه، وأن يتصرف بالتقديم أو التأخير وبالإجمال أو التفصيل مادام ملتزما بالبناء العام للكتاب”.
* المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل.. تأمل واكتشاف الجديد
وهكذا اتجه هيكل إلى كتابة الكتاب الواحد مرتين بلغتين في تجربة فريدة. فهو يكتب بالإنجليزية لقارئ أجنبي في الخارج، ثم يسترجع ما كتبه ويعكف على الكتابة مرة أخرى للقارئ العربي الذي يتابع أعماله.
ويواصل عبدالمجيد: “وخلال فترة استرجاعه ما كتبه في الطبعة الإنجليزية والتأهب للطبعة العربية، والتي تستغرق عدة أسابيع، يكون الأستاذ قد تأمل الموضوع مجددا. وربما يكتشف في بعض الأحيان أن ثمة معلومة وردت في الطبعة الإنجليزية تحتاج إلى تدقيق فيقوم بتدقيقها في الطبعة العربية، وهذا ما يفسر ما سنراه عندما نقارن بين طبعتي كتابه المهم عن المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل، ولكن الأهم من ذلك هو أن تأمله ما كتبه في الطبعة الإنجليزية يدفعه أحيانا الى إعادة النظر في تحليل أو تفسير فيزيد فيه أو ينقص، يضيف إليه أو يراجعه”.
وتابع: “ولذلك سنجد بعض التباين في تفسير بعض الأحداث بين الطبعتين الإنجليزية والعربية. وقد يظن المرء للوهلة الأولى أن الأستاذ نسي تفسيرا قدمه في الطبعة الإنجليزية فطرح غيره، أو أن ثمة تناقضا في التفسير. غير أن تجاوز النظرة الأولى السطحية يقود إلى إدراك أن اختلاف التفسير في بعض الحالات يعبر عن مزيد من تأمل الموقف، خصوصا أن الانتقال إلى الطبعة العربية يوفر له مساحة أوسع مقارنة بالطبعة الإنجليزية حيث يتم الاتفاق مع الناشر على عدد كلمات الكتاب وليس فقط عدد صفحاته. ومع ذلك فالحالات التي نجد فيها اختلافا في التفسير قليلة للغاية”.
* ما الفارق بين القارئ العربي والأجنبي..وكيف وافقت كتابة هيكل طبيعتهما؟
وأوضح عبدالمجيد، الفارق في لغة مخاطبة القارئ العربي والأجنبي، فضلا عن روح وطبيعة نص اللغتين وانعكاسهما على تجربة هيكل في الكتابة المزدوجة.
يقول عبد المجيد: “القارئ الأجنبي لا يتابع قضايانا العربية التي كتب هيكل فيها وإنما يعرف عناوينها، وقد لا يكون هذا القارى مهتما بها، فإذا اهتم جاء اهتمامه محدودا أو عابرا، ولذلك يكون على الكاتب صاحب هذه التجربة الفريدة أن يدفعه إلى الاهتمام بخلاف القاري العربي المهتم أصلا”.
وتابع: “هناك تباين إذن في طبيعة القارئ هنا وهناك يفرض عليه اختلافا بين النصين المكتوب أحدهما بالإنجليزية والآخر بالعربية، فهو في النص العربي يضيف ويزيد ويتوسع ويضع الوثائق التي يستند إليها. وهو لا يعتمد فقط على معرفته المباشرة بالأحداث وما أغزرها. فقد أتيح له أن يلتقى معظم قادة الدول العربية وكثير من قادة الدول الأجنبية، فضلا عن اتصالات لا تحدها حدود مع شخصيات ومؤسسات شتى على امتداد البسيطة. فإلى جانب مصادرة الحية التي يندر من أتيح له مثلها على الصعيد الدولى وليس فقط العربي، يحرص على العودة الى الوثائق والأوراق التي عمل من أجل الوصول إليها، بعضها بمشقة بينما تيسر له بعضها الآخر بسهولة”.
وواصل: “وفضلا عن الاختلاف في طبيعة القارئ العربي والأجنبي، ثمة تباين كبير بين اللغتين الإنجليزية والعربية. فلكل منهما منطقها الداخلي وعقلها الخاص، وما لا يعرفه كثيرون أو من لم يطلعوا على كتابات الأستاذ بالإنجليزية أنه ملم إلماما كاملا بدقائق هذه اللغة وبارع في الكتابة بها كالمتكملين بها، ومن هنا إقبال القارئ بها على كتبه إقبالا لا مثيل له”.