الضباع تتصارع على الفتات في فيلم البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو
بدأ رامبو رحلته في السينمات، بالعرض الخاص الأول له في مصر، بعد جولة من العروض في مهرجانات عالمية، بصحبة نجوم الفيلم عصام عمر وركين سعد وأحمد بهاء وسماء إبراهيم، و”البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو” هو فيلم روائي طويل مصري من إخراج خالد منصور وتأليف محمد الحسيني.
تدور أحداث الفيلم حول شخصية الشاب حسن وصديقه الوحيد الكلب رامبو، وصراعهم مع الجار الغليظ كارم، والذي يطارد رامبو لكي ينتقم منه، ولكن يحاول حسن حماية صديقه بكل الطرق حتى وإن اضطر إلى الاستغناء عنه من أجل الحفاظ على حياته، وخلال رحلة الهروب وبين المحاولات والفشل المتكرر يكتشف حسن أشياء كثيرة عن نفسه وقدراته كإنسان.
رحلة حسن في هذا الفيلم لا تمثل ذاته فقط، بل يمكن رؤيتها على نطاق أوسع، حسن شاب بسيط ويعيش في منزل متهالك مع والدته ويقضي حياته فقط بين عمل يسدد احتياجات المعيشية الرئيسية وأيام متشابهة، ليس لديه طموح أو أحلام، أبسط أحلامه أن يتركهم جاره الشرس وألا يجبرهم على الخروج من المنزل، يمكن أن يرى ملايين الشباب أنفسهم في شخصية حسن، ليس فقط على مستوى الفقر والخضوع للحياة ولكن الإنكسار والشعور بالهزيمة وفقدان أي طموح في ظل معيشة غير آدمية.
ومن هنا تأتي واقعية الفيلم الشديدة، التي تمثلت في جميع العناصر البصرية داخل الفيلم، على مستوى الملابس والديكور وأماكن التصوير، فلم يخرج أي من هذه العناصر عن الإطار المرسوم، لكي تتضافر مع الحالة العامة لبطل الحكاية، لأن حسن لا يمثل ذاته ولكن يعبر عن كثيرين فكان لابد أن تأتي العناصر السينمائية البصرية داعمة لأداء البطل المُنسحق.
وساعد في رسم شخصية البطل جميع التفاصيل الصغيرة التي تحيط به، حيث حرص المخرج على التعبير عنه وتكرار نفس المعنى أكثر من مرة عبر لقطات متتالية، تُبرز شخصية حسن الضعيفة والمٌنسحقة والمهزوزة، ولجأ إلى رمزيات مختلفة في هذا السياق، أولها تكرار نظرة البطل لذاته في المرآة أو الأسطح الشفافة التي تُظهره مٌنقسم إلى نصفين أو ذو وجه مشوه، وهنا يتضح تأثر المخرج بسينما محمد خان على مستوى توظيف المرايا في انعكاس الشخصيات الدرامية.
وعلى جانب آخر كانت شخصية أسماء التي لعبتها ركين سعد، انعكاساً آخر لانسحاق البطل، فهو لا يرى ذاته ولا يرى من حوله حتى وإن حملوا له الحب، وقد ظهر ذلك على مستوى الحوار الذي جمع بين حسن وأسماء، فهي دائماً تحاول التعبير عن حبها له ولكن هو لا يبالي، شخص لا يرى ذاته هل يمكن أن يرى الحب، لأن جميع ظروفه تجبره على ألا يرفع عينه وينظر إلى الحب، أب غائب لا يعرف حتى ملامحه وأم منغلقة تعامله كطفل ومنزل متهالك قد يفقده، أين ومتى يشعر بالحب وسط كل هذا.
بالإضافة إلى التناقض الذي يبرزه المخرج من خلال “الجاكيت” الذي يرتديه البطل، والمكتوب عليه كلمة أمن “security ” ولكنها بحروف متقطعة، يظهر بعضها والبعض الآخر تم محوه من كثرة الاستخدام والغسيل، هو بالفعل يعمل فرد أمن ولكنه ضعيف وخائف ولا يستطيع حماية نفسه من شخص لا يملك أي سلطة أو حق قانوني في طردهم من المنزل ويعيش من خلال البلطجة وفرد القوة بعضلاته على الآخرين.
والفيلم لا يتوقف اتقانه والتعبير بالتفاصيل لدى العناصر البصرية –اللغة السينمائية- فيه، وإنما أيضاً عبر الحوار، الذي يلعب دورا جوهريا في التعبير عن شخصية البطل، وأبرز الجُمل الحوارية التي يمكن أن تجعلك كمٌشاهد تتوقع النهاية، هو حب البطل لفيلم “الغول”، حيث يفضل مشاهدة هذا الفيلم في عيد ميلاده، وهذا المشهد يأتي في الربع الأول من الأحداث، عندما يخبر والدته أنه يفضل الاحتفال بعيد ميلاده قائلاً: “اعمليلنا كيكة حلوة وكوباية شاي بلبن ونتفرج على فيلم الغول” ، وذلك إشارة إلى حب حسن إلى شخصية البطل في فيلم الغول، الذي يعود لكي يأخذ حقه بذراعه في ظل غياب القانون، فهل يفعل حسن ذلك؟ هذا السؤال يثيره الفيلم في مُخيلتك كمُشاهد ويترك الإجابة إلى النهاية.
حيث تتقاطع الأحداث بين فيلم الغول -تأليف وحيد حامد وإخراج سمير سيف- وبين فيلم “البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو”، من خلال عدة نقاط، الأولى والأهم هي غياب القانون، في كلا الفيلمين البطل الضد هو رجل يستخدم قوته، الأول قوته المالية والثاني قوته البدنية، من أجل قهر شخص آخر والسيطرة عليه، والنقطة الثانية هي ثورة البطل في النهاية على هذه القوة.
لكن الاختلاف الجوهري بين الفيلمين هو الهدف من الفيلم في الأساس، فيلم الغول يعبر عن ضعف وارتعاش يد القانون في وجه قوة المال والسلطة، بينما فيلمنا الحالي هو تعبير صريح عن صراع الطبقة الدنيا، المهمشين مع بعضهم البعض على الفُتات وكأنهم خارج العالم، يتصارع كل منهم على لقمة غيره من أجل البقاء على الحياة، من خلال أكل الفتات وما تبقى من الآخرين، مثل الضباع، وهو بالتحديد الرمز البصري الذي بدأ به المخرج افتتاح الفيلم، حيث يبدأ مشهد البداية من خلال شاشة تلفزيون يظهر فيها الضباع وهي تنهش بقايا فريسة، وكارم يمثل في هذه الحكاية ضبع، فهو ليس رجل أعمال مثل شخصية فريد شوقي في “الغول” وإنما عامل عادي ولكنه يمتلك قوة جسدية تجعله متجبرا على الآخرين في الحي الفقير الذي يعيشيون فيه جميعا، وكأن مجموعة من المهمشين يأكلون بعض في ظل غياب القانون، لذلك لم يبرز دور الأمن في الفيلم أبداً بل يلجأ الجميع إلى الجلسات العرفية وفكرة “كبير المنطقة” لحل النزاعات والمشاكل.
وهذه القوة الجسدية التي يمتلكها كارم استطاع المخرج اضعافها ووضعها في حالة انكسار من خلال “عضة كلب”، حيث اختار الكاتب والمخرج أن تكون هذه “العضة” محرك للحدث وليس مجرد مشهد عابر، لأن كارم يؤمن بقوته وفحولته كذكر قوي، وعندما يتهتز هذه الذكورة من خلال “عضة” يمكن أن ينكسر للأبد لذلك يطارد رامبو لأن الأمر بالنسبة له أكبر من حادث وإنما إنكسار حالة القوة التي يتباهى بها، وقد وظف المخرج أيضاً العناصر البصرية والحوار بقوة للتعبير عن ذلك، من خلال سعي كارم لممارسة الجنس مع فتاة ليل للتأكد من قوته الجنسية، وسعيه لمحو بقع الدم التي تساقطت منه أثناء هذه المحاولة لأنها دليل على ضعفه، مما يجعله أكثر شراسة وسعي نحو الانتقام، ويعبر المخرج عن هذه الشراسة بلقطة قريبة من عينيه ووجهه أثناء محاولة مسح الدماء من السيارة.
وهذا كله يعبر عن قوة في الحبكة والبناء الدرامي لسيناريو الفيلم، حيث لا يضع المؤلف أو المخرج أي عنصر سينمائي هباء من أجل التواجد، كل مشهد ولقطة هي عبارة عن ترس يتشابك مع ترس آخر ويتكامل لكي تدور العجلة ككل، وإذا تم الاستغناء عنه يظهر النقص والعوار، وهي قمة النجاح في كتابة السيناريو، حيث تتكامل العناصر ولا يمكن الاستغناء عن أي منها أو حذفها.
حيث يقول علي أبو شادي في كتابه “سحر السينما”: “الشخصيات هي وسيلة لتطور الحدث الدرامي، وتحويله إلى حركة وفعل، والشخصية الدرامية المتكاملة ينبغي أن تُقدّم إنسانا متعدد الأبعاد، وتسهم مساهمة فعالة فيما يدور حولها من أحداث، وتشارك مشاركة إيجابية في دائرة الصراع” كما أن “البناء الدرامي هو أسلوب وطريقة توصيل جزء من الحياة، ضمن مقطع صغير من الزمن، تنعكس فيه وجهة نظر ما، وبذلك فإن وظائف البناء الدرامي تتركز في تزويد المتلقي بالمعرفة، وكلما كثرت المعرفة التي تصل إليه، كان العمل أكثر قيمة، وكلما كثرت اكتشافاته التي يحققها، سواء عن النفس البشرية أو المجتمع أو العلاقات، كان العمل الفني أكثر قيمة”، وإذا أسقطنا حديث أبو شادي على تفاصيل الفيلم المذكورة سابقاً سوف نجد أن العمل قد وصل لتكامل كبير على مستوى البناء الدرامي للأحداث والشخصيات.