
رمضان في غزة
دكتور / السيد مرسى
مشهد الإفطار الجماعى الكبير في مدينة رفح جنوب القطاع وحي الشجاعية بغزة المدمرة بالكامل، مؤثر جدا وعظيم في معناه… وكأنهم يقولون للعالم أجمع: “نحن باقون رغم الألم، نصوم ونفطر رغم الدمار، ونحيا رغم القتل والانكسار.” إنه مشهد تختلط فيه الكرامة بالصبر، وتغلب فيه الروح على القسوة، فالإفطار وسط الركام ليس مجرد طعام، وصوت الأذان يتردد بين هذه الجدران المتهاوية، فوق أنقاض المنازل المدمرة أو داخل خيام ممزقة وبالية ، وأيدٍ ترفع دعاءً فوق الأنقاض… مشهد يرعب العدو ويلهم كل قلب حرّ.
وقد كان في الماضى القريب رائحة الخبز الطازج تتسلل من نافذة الطابون القريب ( الطابون يستعمل لصناعة الخبز والطبخ وتحميص حبوب القهوة) ، تمتزج بعبق القهوة ونسائم البحر القادمة من جهة الغرب، وكانت غزة في رمضان تبدو وكأنها ترتدي ثوبًا من نور، شوارعها تلمع بزينة الورق الملوّن ، تُعلّقها أيادي الأطفال بأمل وفرح ، وتتدلى قناديل صغيرة أمام البيوت، تضيء الليل لتسرد حكايات الأجداد، ففي الحيّ القديم، وكانت أم ياسين تطرق أبواب الجيران بصينية الفتة الساخنة، تهمس بفرح وابتسامة: من رزق الله، صحتين وعافية، وكان العمّ الحسينى يجلس أمام الدار يوزّع تمرًا وحلوى للأطفال، ويداعب الكبير والصغير بكلمات رمضانية، وفي المساء، كانت العائلات تجتمع حول موائد الإفطار، حيث شوربة العدس والبامية باللحم، والقطايف ، وصوت المؤذن يعلن الاذن الإفطار ولصلاة المغرب ، وتبدأ الأيادي صغيرها وكبيرها والقلوب تلهج بالدعاء، أما التراويح فكانت كرنفال روحانيً كبير ، يمشي إليه الناس اليها في وقار وسكينه ، و تنبعث من المساجد تلاوات تخشع لها القلوب وتقشعر لها الأبدان ، والأطفال يركضون يلعبون بالفوانيس، يضحكون، والان تبدل الحال انطفأت القناديل، وسكتت الضحكات، أم ياسين لم تعد تطرق الأبواب، والعم الحسينى غاب من مكانه ، والدور أصبحت ركامًا، تئنّ تحت ذكريات رمضان ، وتغيب الفوانيس خلف دخان الحروب. والشوارع التي كانت تضيء بالزينة وتكتظ بالبسطات الرمضانية، صارت خالية، صامتة، إلا من أنين الجرحى وأصوات الأمهات الثكالى، وتتذكر “ليلة الرؤية”، حين كانت العائلات تجتمع أمام التلفاز منتظرة إعلان بداية شهر رمضان، لأجل تتزين الحارات وتبدأ المساجد بتوزيع التمر والماء للمارة وقت الإفطار ويتعالى صوت المسحراتي، يوقظ النائمين بنداء يحمل عبق التاريخ “يا نايم وحد الدايم… رمضان كريم”.
واليوم ربما لا يُسمع صوت المسحراتي، لكن نبضه حيًا في ذاكرة أهل غزة، ربما لا تُعلق الزينة، لكن صورها منقوشة في الوجدان. فحتى وإن أطفأت الحرب أنوار الشوارع، فإن روح رمضان في غزة لا يمكن أن تُطفأ، هناك إصرار على الحياة. بل رسالة الى العالم تعنى صمود، والتضحية، وأن غزة العزة لا تنكسر.
إلى اللقاء: دكتور / السيد مرسى