آراء وتحليلات

قناة السويس: ملحمة مصرية خالدة رغم جهل المدعين

 

بقلم: / سهام عزالدين جبريل

عندما كنا صغارًا، كنا ننشد أنشودة جميلة حفظناها من أمهاتنا، كانت بعنوان:
“قناة السويس — حفرها جدودي، عيسى وعويس”.
لم أكن أفهم المعنى العميق وراء الكلمات، لكن حين كبرت، أدركت كيف ترجمت تلك الأنشودة البسيطة مشاعر وطنية راسخة في القلوب.
وعندما وقعت نكسة 1967، كانت قناة السويس هي الحصن المنيع الذي وقف أمام العدو. وعلى ضفافها دارت حرب الاستنزاف حتى تحقق عبور أكتوبر العظيم في عام 1973. يومها عرفت حقًا قيمة القناة.
وعندما التحقت بالجامعة قادمة من سيناء، عبرت القناة عن طريق لانشات الجيش المصري، وشاهدت خط بارليف المحطم. ومنذ ذلك الحين ارتبط وجداني بقناة السويس؛ أصبحت جزءًا من رحلاتي وتاريخي الشخصي.
قناة السويس لم تكن مجرد ممر مائي، بل كانت الشريان الحي الذي يربط سيناء بالوطن الأم.

لقد حفرت القناة بدماء أبناء مصر عام 1869، حين لم تكن هناك آلات حديثة أو معدات ضخمة. بل كانت السواعد المصرية وحدها من أنجزت المهمة العظيمة.
مليون مصري عملوا على مدى عشر سنوات (1859-1869)، واستُشهد منهم أكثر من 120 ألف عامل بسبب الجوع والمرض والعطش.

لهذا، تُعد قناة السويس أعظم شريان عالمي صنع بأيادٍ وطنية. واليوم، يطل علينا من يحاول تزوير الحقائق، مدعيًا أن بلاده كانت لها يد في حفر هذه القناة!

فكرة القناة وأصولها المصرية
تعود فكرة الربط بين البحر الأحمر والبحر المتوسط إلى عصور الفراعنة، حيث أنشأ المصريون القدماء أولى القنوات الملاحية. وفي العصر الحديث، حمل المهندس الفرنسي فرديناند ديليسبس هذا الحلم إلى محمد سعيد باشا، والي مصر، الذي منحه الامتياز.
كتب الامتياز بيد فرنسية، وخُتم بخاتم مصري، ونُفذت الأعمال بسواعد أبناء مصر: عيسى، وعويس، وصابر، ومحمود، وعبدالودود.
لا علاقة لأمريكا أو غيرها من الدول بهذه القناة التي خرجت من رحم الأرض المصرية.

جهل المدعين ومحاولات تزييف التاريخ
من المؤسف أن نسمع مثل هذه الأيام ادعاءات مثيرة للسخرية من الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، حين زعم أن الولايات المتحدة صاحبة الفضل في إنشاء قناة السويس.
هذا الادعاء يكشف عن جهل فاضح بالتاريخ والجغرافيا، وكأنما يظن أن الجميع يصدق خرافاته، كما يصفق له أنصاره دون تفكير.

حين كانت مصر تحفر القناة بدماء أبنائها، كانت أمريكا تغرق في حروب أهلية مدمرة، وتواصل إبادة الهنود الحمر تحت لافتات مزيفة باسم “الحضارة”. لم تكن آنذاك قوة عظمى، ولا كانت تحظى بأي تأثير في موازين التجارة العالمية.

حفل الافتتاح.. وأين كانت أمريكا؟
في 17 نوفمبر 1869، احتفلت كبريات دول العالم بافتتاح قناة السويس، أما الولايات المتحدة، فكانت غائبة تمامًا، منشغلة بصراعاتها الداخلية.

القناة، منذ اللحظة الأولى، أضافت عبقرية المكان إلى عبقرية الزمان لمصر، وجعلتها معبرًا استراتيجيًا بين الشرق والغرب.
قناة السويس.. ابنة مصر الخالدة
قناة السويس لم تهبط من سماء واشنطن، ولم تصنعها أيادي الغرباء، بل خرجت من صلب المعاناة المصرية. حفرها الفلاح المصري البسيط بيديه العاريتين، وسقاها بدمه وعرقه وحياته
لقد أصبحت قناة السويس جزءًا لا يتجزأ من الوجدان المصري، وعلامة من علامات الكفاح الوطني.
وستظل قناة السويس شاهدًا خالدًا على أن الشعوب العظيمة تصنع تاريخها بأيديها، لا عبر أكاذيب الجهلاء، ولا عبر محاولات سرقة الأمجاد.

خالص التحيات،
د/ سهام عزالدين جبريل

مقالات ذات صلة