الأدب

أكرم محمد يكتب: صلاة القلق.. الموروث الشعبي كما حاكاه الهامش

لأن الروائي يلتهم العالم، بيد أن النصوص تتقيأ ذواتها بما فيها من عوالم هامشيّة هي، بالأساس، المعنى المجرد للفن، كتعبير عن أصحاب اللا صوت، كما يطرح الكاتب محمد سمير ندا بعتبة ما لروايته “صلاة القلق”، الصادرة عن دار “مسكيلياني” بتونس والفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر”، فيهدي النص “إلى جموع الصامتين، الذين شهدوا على كل تاريخ لم يكتب بعد”.. هنا، وبدايةً من الفصل الافتتاحي، لا يُعنَى النص بالتجريد، يمارس ما ينفيه، يحول كل ما هو معنوي إلى مادي، كأنه بحث عن جدوى للفن بممارسة الكتابة ذاتها، فيحول بالفصل الافتتاحي مشاعر الخوف والخضوع لكائن فني حي مستعينًا بالتجريب، معبرًا عن ثنائية الهامش/المركز “السلطة”، بدءًا من رجل يعاني التهميش، كهامش للهامش.

ويرى أنه يستحق بسلطته المقدسة مركزية رجل آخر هو الواجهة الرسمية للنجع، بذلك الفصل الافتتاحي يُعنَى الراوي العليم بالجميع، بما يشبه المرويات الشعبية والملاحم الروائية، يعنى بالهامش ككل، بالحكاية برمتها، يروي عن الجميع مستخدمًا ايقاع سردي ولغوي يحاكي المرويات الشعبية، والتراث الغنائي في شعرية ايقاعية تؤكد ذلك الطرح، الانتصار للهامش، أيضًا، تتمثل محاكاة النص للتراث والمرويات الشعبية في طرح مجازات من التراث الديني، “لعلي يومئذ ألقي بخطابهم في وجه هنادي كقميص يوسف”، أو حكاية الخوجة مع تمثال الزعيم، رمز السلطة والجمود، الذي يحاكي السلطة الإلهية بيد أنه يحاكي محكية أصنام النبي ابراهيم التي تهدمت، وهنا يهدمها نوح النحّال، المتعلّم الذي خانته السلطة والفراق، نموذج روائي يمثل جزء من فسيفساء النماذج الإنسانية التي يتناولها النص، يقدّم “النحّال” محاكاة نبي؛ فللهامش أيضًا أنبياء، ويهبه النص، كما يفعل على طول الرواية كتطبيق لجدوى الفن، صوتًا سرديًا يعوضه عن التهميش وما مارسته معه السلطة بتعدد نماذجها الروائية هنا، من سلطة دينية تفرض قداستها، وسلطة قمعية تعطّل العقل الجمعي، وحتى سلطة الفراق والتغريب، تظهر محاكاة الموروثات الشعبية والمرويات الدينية، التي تؤثر على لغة النص الشعرية ذات الايقاع الغنائي والايقاع التوراتي، في النموذجين الانسانيين “النجّار” و”عاكف الكلاف”، الأول يصنع سفنًا منتظرا الطوفان، رمز التغيير والتمرد على السلطات العديدة للقرية والخروج من الوقائع المأزومة، والأخير يحاول صنع نفق، ليهرب حيوانات نافقة، هي ذاتها، ذوات النجع النافقة والمعطلة.

يحاول، أيضًا، التحرر والخروج من الرقعة الجغرافية المأزومة. ويظهر، أيضًا، التأثر بالموروث الشعبي في إحالات تاريخية دلالية كلفظ “الوليّ”، الذي يطلق على رمز سلطة القداسة، الشيخ جعفر أبو الشيخ أيوب، الذي عاد من الموت، فحظى بقداسة تبتعث من جهل أبناء المجتمعات المغلقة، وهو لفظ يطلقه عليه شخصية “محروس الدبّاغ”، فتنصاع سردية ضمير الأنا لبناء شخصيته كنموذج إنساني، رجل ينصاع للسلطة، يخضع للخوجة وقداسة الشيخ جعفر والشيخ أيوب، لذا يطلق على الشيخ جعفر “ولي” في إحالة تاريخية تدل على سلطة القداسة والجمود عند هذا النموذج الإنساني، الذي يقدم ثنائية مع نموذج المصلح ومحاكاة النبي المعطّل “نوح النحّال”، لذا تنتهي مروية ضمير الأنا ل”محروس الدباغ” بصراع بينه وبين “نوح النحال”، كأنه تأويل مادي لتلك الثنائية الدلالية بين التمرد والخضوع، والثقافة والجهل.

وتلك البنية الروائية المنحازة للتراث الشعبي ما يستعين به النص للانتصار للهامش، فينتصر بمحاكاة المروية الشعبية للهامش على حساب كل السلطات، الدينية والالهية والحرب والحكم، وحتى سلطة المشاعر المجردة الذي يحولها الفن بالتجريب لكائن حي، من لحم ودم وحكاية، فيحوّل الخوف لوباء يجرّد الهامش من جماله، في وباء يجعل من الرجال والنساء بلا شعر أو حواجب، ما يطرح ترميزًا لاقتلاع الهوية والجمال بسيطرة الخوف وانتشار العقول المعطلة بفعل السلطة، وهنا تأتي الحكاية لتنتصر لذلك الهامش، غير عابئةٍ بالتجريد؛ بل حتى الفضاء المكاني تسميه “المناسب”، كتأكيد مباشر على تهميش ذلك الفضاء المكاني وقاطنيه وحكاياته.

مع تقديم النص لإعادة بناء مفهوم المجتمع المغلق، طارحاً نماذج إنسانية بعينها يهبها النص عوضًا عن هامشيتها باعطاءها صوت سردي عكس السلطة التي نهبت صوتها كما عطّلت العقل الجمعي، يمارس النص إحالة جغرافية، بدراية كاملة لدور المكان في البنية الروائية والفضاء الدلالي، فيشير إلى فلسطين، كمثال، كأنه يقدم تناصًا موازيًا لمفهومة المجرد بالنصوص، يصبح هنا تناصًا ماديًا، تناص الأمكنة، كأنها، جميعها، مكان واحد خانته الحياة، لم تذكر حكايته، بينما انتصر له الفن فروى حكايته، وصنع تناصًا بين تلك الأمكنة التي هي جسد النص، جسد معطل بالحروب وهيمنة السلطة بأشكالها العديدة ما بين الدين والقداس والجهل والقمع وسرقة العقل..

ينحاز النص للتأريخ الموازي، ينفي استقراء التاريخ كتأريخ، بينما يجتره كفضاء دلالي، يطرحه، في إحدى مستويات استقراء النص، كمساءلة تاريخية، لكنه، بتلك الطريقة المعتادة للفن، ينحاز منه للجزء الثاني من ثنائية الخاص والعام، يمارس ما يفعله الفن، لا يقول الحرب قتلت كذا جندي، يقول الجندي له حكاية لها تلك الرائحة التي يتركها موتى الحرب بحكاياتهم.

التأريخ الموازي هنا يبتعث من المجتمع المغلق

يتناول النص ثنائية موازية لثنائية الواقع/فوق الواقعي، التي تمثل جزءًا كبيرًا من بنية النص وتجريبه، وهي ثنائية الوقائع الدرامية/الحلم؛ فهنا الحلم يتجلى في مستويين سرديين أولهم الخيال، الحلم في تصوره المعنوي ومحاكاته محدث درامي، وثانيهما الحلم في معناه المادي، فالأحلام في تلك السرديات العديدة للنماذج الإنسانية المأزومة والمهمشة يمثل دلالات موازية للنص، واستقراء الشخوص والوقائع الدرامية، وحتى للمسائلة التاريخية التي يمارسها النص، وما لها من دلالات عامة تنطلق من القضايا الخاصة.

ربما، يصبح الحلم هو الواقع ذاته، فأهل النجع يعيشون بحلم، حد أن يقظتهم حلم ضخم حاكته السلطة بأشكالها العديدة، ليجعلوا من مجتمعهم مجتمعًا مغلقًا يحيا الجمود والجهل في كل شئ، حتى في رؤيته للمرأة، تلك القضية الإنسانية التي يتناولها النص، أيضًا، يعيش أبناء النجع في حلم هو انتصار العرب في الحرب على إسرائيل، ممثلين ثنائية مع الواقع التاريخي، هي ذاتها ثتائية الحلم واليقظة، وذلك الوهم خلقته أحادية السلطة ممثلةً في خليل الخوجة، الذي ينشر جريدة من صفحة واحدة بها أخبار وهمية يصدقها أبناء النجع، يسلب عقولهم بساطته السياسية كما يعطلها بسلطته الدينية، فيخلق نصوصاً قرآنية موازية تخدم سياساته في الحرب، هكذا يرمز النص للسلطة الدينية وكيف تعطل العقول.

ربما تسفر أحجية الأحلام تلك افتتاحيات معظم سرديات شخوص النص، فمعظمها يكون لايستقاظ الراوي، انتصارًا لفعل الحكي وممارسة الفن والثقافة، فلا تستيقظ الذوات إلا بالحكي وامتلاك صوت، حتى لو سردي، كأن كل شخوص النص الجامدة تحيا الموت، لا تستيقظ إلا بنطق أولى كلماتها، إلا بممارسة فعل الحكي، هكذا ينتصر النص للفن والروي، وينتصر أيضًا للفن باستخدام تضمين أعمال فنية موازية هي أغاني الفنان الراحل عبد الحليم حافظ، الذي يملك اختياره كتصدير لفصول النص بعيدًا تاريخيًا ورمزيًا، كأنها نصوص موازية تدعّم تأويلات النص، ويستند ذلك التصميم لبنية شخصية “حكيم”، الذي لا يملك إلا الكتابة والفن، ككل، متمثلاً جزء كبير منه في حبه لأغاني عبد الحليم حافظ.

مع كشف السياق الدرامي للنص، والانتصار به لفعل الفن والكتابة، باعتبار النص ذاته جزء من فعل الكتابة؛ لأن عبد الحكيم ابن خليل الخوجة يُمارس علاج نفسي عن طريق الكتابة، يؤاخي النص ثنائية الواقع والخيال، أو الوقائع والأحلام في مستوياتها المتعددة بين المادي والمُحَاكي فعل الأحلام بالتجريب، فيضع الكاتب مقطع مؤلف من خبر في جريدة “الأهرام”، لتمرد نجع المناسي، أو نجع المجاذيب، الذي انتهى به النص الأول، المستوى السردي الأول، حيث محاكاة التراث الديني والشعبي لقصة نوح ورمز الطوفان، الحرية والتغيير، حيث يتمرد المهمشين المأزومون، أخيراً، على السلطة.. ذلك الخبر المُؤلَف، والذي يضع هوية بصرية موازية للنص، يدعم دلالات النص كما يدعم تقنية التشويق به، كأن النص يقول أن كل ما ورد بدلالاته واقعي تماماً، حد أن أحد الأخبار كُتِبَ عنه، وهو ما يؤكد عليه كون الطبيب المعالج لحكيم أحد أبناء أصحاب المرويات، كأنه رمز لتحررهم أخيراً كما أرادوا، ودلالة لواقعية معاني النص وقضاياه المعنية بالخاص والعام.

مقالات ذات صلة