
عود ثقاب.. بقلم / محمد الزملوط
يا لذاك العود الصغير ، ما أبهاك حين يكتسيك اللهب ، فتغدو كأنك شهاب سافر من جوف السماء إلى صميم الرمال ، ما أعجبك حين تطرق بوابة الظلمة فتفتح لك الليالي صدرها وتخضع لك الصحراء كما تخضع العذراء لوشوشات الحبيب.
كنت فتى من البادية يرضع من ضرع الشمس الحارة ، وينام في حضن الريح ويستيقظ على ترانيم القمر ، وكان عود الثقاب ذاك القزم الذي يحمل في قلبه بركانا صديقي الأمين وساحري الذي لا يخون ، نشعل به النار فنوقد الذاكرة ويبدأ عرض الحكايا.
أيها العود ما أنت إلا قصبة من خشب ولكنك إذا اشتعلت استحال فيك السكون إلى حياة ، وذاب فيك الجماد حتى صار دفئا يلف الراحات . تشعل نارك في فم ليل الصحراء فتغدو الرمال مرايا تعكس وجوه الأجداد وجمرة تسري في قصص الرعاة والعشاق والمتصوفين .
كنت لرفاق القافلة نبراسا وللشاي مذاقا وللقلب رفيقا ، لم تكن نارك لهبا فقط بل كنت ذاكرة تضيء الماضي وكأنك شمعة تنزف لتكتب سيرة البدو على رق الرمال . يا له من مشهد حين تشعل وترف النار كالخيل إذا جن لجامها ، فيرقص الظلام على أطراف خيمتنا رقصة المودع.
عود الثقاب ما أصغرك حجما وما أعظمك أثرا ، كأنك سطر من قصيدة نزلت من السماء إلى يد البدوي ليكتب بها على جدران الهواء ذكرى الطفولة وعطر الأمسيات وحكاية جد كان ينسج من لهبك أساطير قبيلته.
ما أكرمك حين تكون سببا في دفء العائلة وفي غليان القدر وفي إشعال سيجارة في يد شيخ تخضب الزمن على وجهه ، يحدق فيك وكأنك خاتم سليمان . ما أنت يا عود الثقاب إلا شاعر يحمل في جوفه بيتا واحدا فإذا قاله احترق وإذا احترق أنار.
في البادية كل شيء له صوت حتى الصمت ، إلا أنت لك لهب يتكلم ولهفة تحكى ونهاية تعلمنا أن البدايات الصغيرة قد تشعل أمما من الذكرى.
فيا من لم يعرف البادية لا تسخر من عود الثقاب فقد يكون في عيني البدوي نيزيكا هبط ليواسي وحشته ، أو مصباحا من رحم الغيب يكتب له أن هنا كانت الحياة وأن هنا اشتعل الحنين .
عود ثقاب أيها الساحر فوق الرمال لا تزال نارك تضيء لي ما أطفأه الزمان.