
عبث xعبث
دكتور / السيد مرسى
ترامب، رجل الصدمات، يعود من نافذة الخليج عام 2025، بعد أن لفظه الناخب الأمريكي وعانقه قادة الخليج العربي بحفاوة لا مثيل لها، في زيارة تشبه حفلات الزفاف في بعض المجتمعات، كثيرٌ من الابتذال والزينة، كثيرٌ من التبجيل … وقليلٌ من المنطق، جاء ترامب ليبيع لهم مبادرات على شكل “صفقات”، تُلفّ بورق ذهب ، فهو ليس سياسيًا تقليديًا، ترامب لا يفاوض، بل يساوم، ولا يخطط، بل يغامر، يلوّح بورقة الإفلاس كما يلوّح آخرون بأوراق التوت ، وإن سألته عن المبدأ، أجابك: “الربح هو المبدأ”. وهم يستمعون له بانبهار، وكأنهم لم يسمعوا تغريداته من قبل، ولم يروا سفارته في القدس، ولم يقرأوا اعترافه بسيادة الاحتلال على الجولان! فهذه العقول العربية، التي أرهقها الإعلام الموجّه من الشرق والغرب ، تحتفي بترامب وكأنه صلاح الدين، وليس الذي صفق لنتنياهو وفتح له أبواب المال الخليجي في محنته عقب طوفان الاقصى ، الغريب في الامر هذا المشهد الذى اتسم بالبذخ بما يشبه أجواء ألف ليلة وليلة، اجتمع فيه كبار الساسة في أرض النفط والرمل ليقيموا أعظم مهرجان عرفته المنطقة ، بدأ الحفل بعزف مقطوعة “ترامب فوق الجميع”، وهي مزج مبتكر بين المارش الأمريكي والناي البدوي، بينما توزعت الهدايا التي كانت على شكل سيوف مطلية بالذهب، وأساور مرصعة بالألماس، وسيولة لا تعرف الركود ، في القاعة الكبرى، جلس ترامب متربعًا على عرش مذهّب، أما القادة الخليجيون، فقد اصطفوا واحدًا تلو الآخر، ينافسون بعضهم في تقديم فروض الولاء: من خلال طائرة وصفقات بمليارات الدولارات، وبرج جديد يُطلق عليه “ترامب تاور الشرقي” فى مهرجانًا للفانتازيا السياسية، وسط زغاريد المذيعات وتهليل المحللين بالقنوات، و لافتة الترحيب والاجلال بكل اللغات ، واخر يطالب بإقامة تمثال نصفي له بجوار الكعبة (فكرة لم تلقَ رواجًا كبيرًا، لحسن الحظ).
والشعوب تتابع من خلف الشاشات، في ذهول، هذا المشهد العبثي لترامب الذى يتجول بالقصور، بينما أهل فى غزة يبحثون عن أحبتهم بين المقابر، وينصب هذا الاحتفال لمن أعطى للاحتلال غطاءً سياسيا كاملا، في لحظة يموت فيها أهلنا في غزة دون ماء أو غذاء أو دواء، تختصر الكثير : غطرسة القوة ، تواطؤ الصمت الدولى، واختلال معايير العدالة، هذا الواقع قد لا يكون إنسانيا، ولكنه دعوة صارخة لمراجعة ضمير العالم.
وأخيرا…فزيارة ترامب ليست حدثًا عاديًا، بل اختبار للكرامة، وامتحان للذاكرة، وجرح لمشاعر الشعوب. لا يمكن لعاقل أن يرى أطفال غزة يُدفنون أحياء، ثم يشاهد ترامب يُستقبل وكأنه رسول محبة، ولا يشعر بالقهر، إنه عبثٌ في عبث… ولكن العقول ما زالت تقاوم، والقلوب ما زالت تنبض، ولا كرامة لمن لا يغضب!
الى اللقاء : دكتور / السيد مرسى