
إياك إياك وابتسامة الجحش.. بقلم أ.د. زكريا محمد هيبة
كنتُ أشاهد مقطعًا لرجلٍ على خشبة المسرح، يستعد لتسلّم درع تكريم، يحيطه وهج الأضواء وعدسات الكاميرات. تكرّرت اللقطة أكثر من مرة لأسباب فنيّة تتطلب إعادة التصوير، وكان المشهد غريبًا بحق؛ إذ يتحول وجهه في لحظة من طبيعته العابسة إلى ابتسامة عريضة كاشفة عن أسنانه، ثم ما يلبث أن يعود إلى سحنته الأولى بمجرّد توقف التصوير.
أعجبُ من قدرة بعض الناس على التحوّل الفوري من وجهٍ إلى آخر، وكأنهم يغيّرون أقنعتهم ببساطة!
ولا شك أنّ الابتسامة تُضفي على الوجه نضارةً وجمالًا. وقد نُقل عن يوليوس قيصر أنه لم يكن يستقبل في مجلسه إلا الوجوه المشرقة، لأنّه كان يرى أن الابتهاج عدوى.
وفي الحديث الشريف: “تبسُّمك في وجه أخيك صدقة”. لكنّ تلك الابتسامة قد تتحول إلى نقمة إن خرجت عن مقصودها النبيل. وهنا تكمن أهمية التمييز بين أنواع الابتسامات.
حين بدأتُ في قراءة كتب التنمية البشرية وتطوير الذات، وخصوصًا في مجال لغة الجسد، حاولت أن أقرأ ابتسامات من حولي؛ فأُصيب تارة وأُخفق تارات. وقد صنّفت الابتسامات إلى أنواع، أرجو أن تعبّر عن مضمونها.
– فهناك “الابتسامة البلاستيكية”؛ وهذه الابتسامة لم أرها في حياتي إلا بعد أن بلغت من العمر عتيًا (هو مش عتي قوي يعني)، حيث أول مرة أركب الطائرة، وكان ذلك في سفري لسلطنة عمان للعمل بجامعة السلطان قابوس، كنت في ذلك الوقت في السادسة والثلاثين من العمر، وبينما أنا في الطائرة إذ بالمضيفة تسألني عما أشرب بابتسامة خلتها لأول مرة شخصية، فقلت لنفسي ألهذا الدرجة أبدو وسيمًا؟ ثم ما لبثت أن طار هذا التصور من ذهني؛ فبيني وبين الوسامة خصام، فقلت إنها بلا شك العبقرية التي تُقرأ على محياي، وقد تكون لأناقتي الاستثنائية، أو لعطري الذي كنت أركّبه بمزج بعض العطور مع بعضها البعض، في زجاجة ابتاعها ببضع جنيهات (والبضع رقم من ثلاثة إلى تسعة، هذا للتنويه) وتزاحمت عليّ خيالاتي، ثم ما لبثت أن تحولت إلى خيابات بعد ما فعلتْ المضيفة فعلتها وبالطريقة نفسها مع جاري في المقعد؛ فبدت لي تلك الابتسامة بأنها أشبه بالورد البلاستك!!!
وقرأت لاحقًا أن متجرًا فرنسيًا رفض رفع رواتب موظفيه، فاتفقوا على استقبال الزبائن بوجوه متجهمة. النتيجة؟ انخفاض المبيعات بنسبة 60% في أسبوع واحد!
– ” الابتسامة الموناليزية: “نسبةً إلى لوحة “الموناليزا” لليوناردو دافنشي. هي ابتسامة غامضة، صعب تفسيرها، توحي بعمقٍ داخلي، لكنها إن لم تكن متقنة تحولت من الغموض الجذّاب إلى الغموض المريب.
– وتوجد”الابتسامة الصفراء”؛ تلك الابتسامة الباهتة، لا تضمر توعدًا ولا تنطق بالحب، لا أدري من ذا الذي جعلها صفراء، لو سُئلت في أي الألوان تسكن تلك الابتسامة؛ لاخترت لها اللون الرمادي القاتم.
– وهناك “الابتسامة الساخرة” أو الهازئة؛ مثل ابتسامات عادل أدهم لميرفت أمين في “حافية على جسر من الذهب” وهو يقول: “أهلا يا قطة”.
– وهناك “الابتسامة المزمومة”، من زم الشفتين إذا مدهما للأمام، ويصحب هذا الزُموم رفع الحاجبين أو أحدهما دهشة!!
– وقريب من سابقتها؛ “الابتسامة الباهتة”؛ وتلحق المهزومين والمرضى، فتلقاها مُرة، ما تلبث أن تموت وهي في مهدها.
– وهناك “الابتسامة اللزجة”؛ وهي قريبة من الابتسامة الصفراء، لكن يمكن أن تختلف عنها في أنها تصاحب الشخص بتكلف طوال الوقت، حتى في المواقف التي يتعين أن يكون فيها الوجه به لمسة من حزن أو تضامن مع مكلوم أو حزين. لكنك تجد تلك الابتسامة حاضرة في هذا الموقف، وبالتالي يمكن وضعها في خانة اللزوجة. لقد رأيتها آخر مرة في الصورة التذكارية لأسرة الموسيقار “حلمي بكر” على هامش العزاء.
– وهناك “الابتسامة البيضاء”؛ تلك التي تعتري الوجه النضر، طبيعية، عفوية، لا تُفتعل، كأنها منقوشة على الوجه، تنبع من القلب.
– أما “الابتسامة الليثية، أو الوحشية، أو الجحشية”؛ (نسبة إلى الليث أو الوحش أو الجحش)؛ فهي الابتسامة الخادعة، الماكرة، التي يعقبها شر، وهي أخطر الابتسامات،ولعل تلك الابتسامة هي التي قصدها أبو نوّاس:
إذا رأيت نيوب (الجحش) بارزةً
فلا تظنن أن (الجحش) يبتسمُ
مع الاعتذار للنواسي والليث كليهما.
وأيًّا كان لون الابتسامة، فإنّها ترتبط ارتباطًا عضويًّا بالعينين؛ فبريق العين يمنحها حياة، بينما يخمدها ذبول النظرة.