مقالات

مفهوم الشرق الأوسط الجديد: بين خرائط المصالح وخطوط الجغرافيا وتحديات التاريخ

✍️ بقلم/ سهام عزالدين جبريل

الشرق الأوسط الجديد مصطلح أصبح يتردد مع إطلالة القرن الحادي والعشرين، ومع كل شرارة تنطلق في هذه المنطقة يبرز ذلك المصطلح وكأنه شبح يهدد المنطقة ويعيد إليها ذاكرة التاريخ التى عاشتها المنطقة من ويلات حروب القرن الماضي التى انجبت مؤامرة وعد بلفور وسايكس بيكو وتداعياتها على المنطقة العربية، وما آلت إليه أحوالها المتشابكة بين خرائط المصالح وأشلاء الجغرافيا، ذلك الهاجس الذي فتّت وما زال ينهش في الأرض العربية ويزيدها هشاشة وتفتيتا .
أطلقت كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، مصطلح “الشرق الأوسط الجديد” (New Middle East) في صيف عام 2006، وتحديدًا في منتصف يوليو 2006، خلال زيارتها إلى تل أبيب أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان الذي استمر 33 يومًا.
وقد قالت رايس في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود أولمرت:
“ما نشهده اليوم هو آلام ولادة شرق أوسط جديد… ونحن بحاجة إلى أن نتحلى بالصبر حتى يولد هذا الشرق الأوسط الجديد.”

هذا التصريح جاء في خضم القصف الإسرائيلي العنيف على لبنان، وكان يُنظر إليه على أنه تبرير سياسي للدمار الحاصل، وإشارة صريحة إلى مشروع سياسي أمريكي-إسرائيلي لإعادة تشكيل المنطقة على أسس جديدة ،،،
لقد كانت تلك الجملة بمثابة عنوان لمشروع جيوسياسي واسع، يتجاوز الحرب الدائرة إلى هندسة مستقبل المنطقة بأكملها!!!
فما هو هذا الشرق الأوسط الجديد؟ ومن رسم ملامحه؟ وهل تحقق كما خُطط له؟
أم أن رياح الشعوب عصفت بسفن المخططات الدولية؟
مصطلح “الشرق الأوسط الجديد” لم يكن وليد لحظة، بل هو خلاصة مسار طويل بدأ منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في مطلع التسعينيات، وتبلور مع الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، حيث اجتمعت تقارير مراكز الفكر الأمريكية مثل “مشروع القرن الأمريكي الجديد” و”مؤسسة راند” على رؤية استراتيجية تؤكد أن الشرق الأوسط القديم لم يعد مناسبًا لحماية المصالح الأمريكية والإسرائيلية، وأن إعادة رسمه على أسس طائفية وعرقية هو المدخل الأمثل لترسيخ الهيمنة طويلة الأمد.
تقوم فلسفة المشروع على عدة مرتكزات أساسية، أبرزها تفكيك الدول القوية مثل العراق وسوريا إلى كيانات صغيرة قائمة على الطائفة أو العِرق، وضرب التيارات القومية والدينية التي ترفض الهيمنة الغربية، وإعادة تعريف العدو من إسرائيل إلى إيران، ودمج إسرائيل في النظام الإقليمي العربي كشريك أمني واقتصادي في مواجهة “العدو المشترك”، فضلًا عن تسويق الفوضى كمدخل ضروري لإعادة التشكيل.
في عام 2006، نشرت مجلة “Armed Forces Journal” الأمريكية خريطة بعنوان “حدود الدم”، تتخيل تفكيك المنطقة إلى دويلات جديدة مثل “كردستان حرة”، و”شيعستان”، و”سنة العرب”، و”دولة الحجاز”، و”الأردن الكبرى”، في محاولة لإعادة توزيع الجغرافيا وفق الرؤية الأمريكية. ورغم أن هذه الخرائط قُدمت كتصورات بحثية، فإن توقيت طرحها يعكس انسجامها مع الاستراتيجية العامة للمشروع.
وقد تم تنفيذ هذا المخطط عبر أدوات متعددة، منها التدخل العسكري المباشر كما في العراق، وتغذية التناقضات الداخلية في المجتمعات، ودعم الحركات الانفصالية والميليشيات المسلحة، إضافة إلى الدفع بمسارات تطبيع مع إسرائيل تحت شعارات السلام الإبراهيمي، فضلًا عن تفجير الأزمات الاقتصادية لإضعاف القرار السيادي، وتجفيف روافد الدولة الوطنية.

لكن من أبرز الأحداث التي أربكت الحسابات وأعادت خلط أوراق المشروع، اندلاع الحرب المباشرة بين إيران وإسرائيل، التي لم تعد مواجهة بالوكالة كما في السابق، بل تحولت إلى اشتباك عسكري إقليمي شمل عدة ساحات مثل سوريا ولبنان والعراق. وقد أحدثت هذه الحرب آثارًا استراتيجية عميقة، إذ كشفت هشاشة منظومة التطبيع، وأجبرت بعض الدول على إعادة النظر في أولوياتها السياسية، كما منحت خطاب المقاومة زخمًا شعبيًا جديدًا، وعرّت حدود الدور الأمريكي في حماية حلفائه، ودفعت بعض الدول إلى تعزيز استقلال قرارها الاستراتيجي، بعيدًا عن التبعية المطلقة لواشنطن.

ورغم مرور أكثر من عقدين على انطلاق هذا المشروع، فإن نتائجه جاءت متباينة. فمن جهة، نجحت بعض أهدافه في تفكيك دول مثل العراق وسوريا واليمن وليبيا، وظهرت كيانات لا دولتية مثل داعش والميليشيات المسلحة، كما سُجل تطبيع سريع مع إسرائيل في بعض العواصم العربية. ومن جهة أخرى، فشلت تلك السياسات في فرض الاستسلام الكامل أو تحييد القوى الإقليمية الكبرى مثل مصر والسعودية، ولم تُنهِ روح المقاومة داخل المجتمعات العربية، بل أعادت طرح أسئلة الهوية والسيادة والاستقلال.

واليوم تقف المنطقة باسرها عند مفترق طرق حاد. فإما أن تستمر في الانهيار التدريجي تحت مسميات التدويل والتطبيع، وإما أن تبني مشروعًا واقعيًا ونهضويًا ينبع من داخلها، يحفظ سيادة الدولة ويعزز التعاون الإقليمي بعيدًا عن الإملاءات الخارجية. وذلك يتطلب إرادة سياسية واعية، واستثمارًا حقيقيًا في الوعي الجمعي، وتحالفًا بين شعوب المنطقة ونخبها لصياغة مستقبل يعيد الاعتبار للمشروع العربي الجامع.

إن مشروع “الشرق الأوسط الجديد” لم يكن مجرد خطاب نظري، بل محاولة واقعية لإعادة هيكلة المنطقة وفق خرائط مرسومة في مراكز القرار الغربية. لكنه في الوقت ذاته، كشف عن عمق صراع الإرادات بين من يريد فرض الهيمنة من الخارج، ومن يملك القدرة على المقاومة والصمود من الداخل. ولهذا يبقى السؤال الأهم معلقًا في الأفق: من يرسم حدود المستقبل؟ هل هم أصحاب المصالح الكبرى؟ أم الشعوب التي تدفع ثمن كل خريطة تُرسم بالدم؟

خالص تحياتى

د/ سهام عزالدين جبريل
دكتوراه في الإعلام السياسي والعلاقات الدولية
زمالة كلية الأكاديمية العسكرية للدراسات الاستراتيجية العليا
عضو البرلمان المصري سابقًا