مقالات

سرقة الإبداع، إمسك حرامي بقلم أ.د. زكريا محمد هيبة

في هذا العالم الأزرق الذي نحياه، يتغذّى بعض روّاده على جهود غيرهم، بانتحال الأفكار وسرقة الإبداعات، ثم ينسبونها لأنفسهم بلا خجل ولا حياء.

ورغم أن كثيرين لم يكونوا يعيرون هذه القضايا اهتمامًا، إلا أن ضجّة كبرى نَبَّهت الأنظار مؤخرًا، بطلتها ما تُعرف بـ”الفنانة” مها الصغير، التي لا ذكر لها في ميادين الإبداع، لولا أن طلاقها الأخير من الممثل أحمد السقا، وما رافقه من أصداء ونزاعات على وسائل التواصل، جعل اسمها حاضرًا. لكنه، كما قال المنفلوطي –مع الاعتذار له–: “حضور لكن لا أقول سعيد”.

فقد خرجت “المتفاننة” -وهي لفظة نحَتُّها لها خصيصًا- تدّعي ملكية عدد من اللوحات الفنية، وشرعت تشرح للحضور بواطن الجمال فيها، وسط تصفيق ودهشة وإعجاب المصغين.

ولأنه عالم أزرق، فقد كان صبيحة اليوم التالي أزرقًا قاتمًا على مها الصغير؛ إذ أعلنت الفنانة التشكيلية الدنماركية ليزا لاش نيلسون أن إحدى اللوحات التي عُرضت في البرنامج تعود لها. وتبعها فنان فرنسي يُدعى سيتي، مؤكّدًا أن ثلاث لوحات أخرى عرضتها مها الصغير، وهي: (دواركا)، (كيغالي)، و(بوشيدو)، هي من أعماله التي أنجزها عام 2017.

ومع انكشاف الفضيحة، لم تجد مها بُدًّا من الاعتذار، مبرّرة ما فعلته بأنها تمر بظروف نفسية صعبة عقب الطلاق!
وهنا أضع نقطة نهاية عند “قضية مها الصغير”، دون قَبولٍ للاعتذار، ولا تعاطف مع الفعل؛ فهذه حقوق، لا يُقبل فيها الاعتذار إلا من أصحابها.

لكن هذه الحادثة تجرّنا للحديث عن حقوق الفكر والأدب، تلك التي أصبحت مُستباحة في عالم مفتوح لا يعرف حرمة للإبداع.
قبل نحو ثلاث سنوات، كتبت خاطرة قصيرة مرقّمة، وذكرت أنها جزء من كتاب قيد الإعداد بعنوان”قيد الخاطر في النفس والحياة”. ولأنني لم أحدد بعد موعدًا لطباعة الكتاب، فما زال المشروع معلقًا.

نشرت الخاطرة على صفحتي فيس بوك ومنصة X، وبعد دقيقتين بالتمام، وجدت أحد “الأصدقاء الافتراضيين” قد حذف رقم الخاطرة واسم الكتاب، وأعاد نشرها وكأنها من بنات أفكاره! وما علم أن هذه بنتُ سفاح، لا تُنسب إليه!

كانت الخاطرة لا تتجاوز السطر ونصف، وقد يقول قائل: “كل هذا من أجل سطرين؟!” لكن ما لا يدركه بعض الناس أن الأفكار لا تُقاس بالأمتار، ولا تُوزن بالكيلوغرامات. فجزء كبير من عبقرية الكاتب محمد حسنين هيكل -مثلًا- كان في صكّه للمصطلحات، وهي حرفة لا يُحسنها إلا كبار الكُتّاب.

تأمل مصطلح “صراع الحضارات” الشائع؛ الكل ينسبه للأكاديمي الأمريكي صموئيل هنتنغتون بعد مقاله الشهير عام 1993، لكن المفكر المغربي مهدي المنجرة سبقه إلى الفكرة نفسها تحت عنوان “الحرب الحضارية” في مقال له نُشر عام 1991.

لكن الشهرة كها أخذها صموئيل باعتبار له الريادة في هذا المفهوم.

من أجل هذا؛ فإني أغفر أي قصور أو خطأ يقع فيه طلابي في رسائلهم، بل أخفف عنهم بالقول “كذلك كنا من قبل فمّن الله علينا”. لكن الانتحال والسرقة العلمية لا تقبل التمرير؛ فمن يقتات على أفكار غيره لا يؤتمن على العلم.

نعود إلى خاطرتي الصغيرة، والسطو السافر الذي تعرّضتُ له، وخطورته على المدى البعيد.

تخيّل أن تتكرر حالات النقل والانتحال مرارًا، فيأتي يومٌ ينشر فيه الكاتب كتابه، فيبادر أحدهم بالقول: “هذا الكلام منقول!”، ثم يُخرج “دليل الإدانة” من منشورات سابقة على مواقع التواصل، تحمل تاريخًا يسبق نشر الكتاب! وهكذا يتحوّل الكاتب إلى متَّهَم، وقد يصعب تبرئته. وحتى إن بَرُئت ساحته، تظل تهمة “السرقة الفكرية” تلاحقه، في مجتمعٍ تُلصَق فيه التهمة سريعًا، ويصعب محو أثرها، انطلاقًا من تلك المقولة الموروثة “لا دخان بلا نار”.

وصدق الحق جل جلاله إذ يقول: ﴿ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.