
الظلم الجامعي.. بقلم أ.د. زكريا محمد هيبة
وأشدّ أنواع الظلم وأخسّه، ذلك الذي يُنسَج في الظلام؛ حين يجلس الظالم ليفتل حباله بخيوط سوداء، لا عن غضب، بل عن سابق قصدٍ وتخطيط بعقل بارد. يقيس خطواته على جراح من يستهدفهم، ويتلذذ بأنينهم كما لو كان انتصارًا!
تلك هي السادية في أبشع تجلياتها.
أفهم الضرر العابر ، وأتفهّم الأذى الناتج عن موقف انفعالي طارئ، بشرط أن يُراجع المرء نفسه، ويعتذر، ويردّ الحقوق لأصحابها.
لكنّ الظلم المتعمَّد، المبني على سبق الإصرار والترصّد، ذاك الذي يُبيّت له بليل؛ يبقى غصّة في الحلق، لا تُبلع، ولا تُغتفر.
أقول هذا في سياق ما تناولته وسائل التواصل الاجتماعي ليلة أمس، بشأن الأستاذ الذي توفاه الله في كلية الصيدلة بطنطا، ودعاء أحد طلابه عليه بعد موته لظلمه إياه كما قال. ولسنا هنا في موضع الحكم، فما نعرفه لا يتجاوز روايات متفرقة. وقد رُفعت القضية إلى محكمة السماء، وما أعظمها من محكمة؛ لا تنطلي فيها دموع التماسيح، ولا تجدي فيها الحجج المغلوطة، فالشهادة فيها صادقة. من جوارح الإنسان نفسه، تنطق بما فعل من ظلمٍ وإثم.
قال رسول الله ﷺ: “اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة”.
ولنعترف بأن الجامعة ليست ذاك العالم المثالي الرومانسي، بل كمثل سائر المؤسسات، يعجّ بعضها بنفوس مريضة، لو تمكّنت لألحقت بالناس الأذى وهم يحتسون قهوتهم! يزيد من مساحة الظلم فيها، أن الأساتذة لهم صلاحيات وسلطات أوسع لا سيما على المعدين والمدرسين المساعدين.
ولديّ من الواقع الجامعي شواهد على ظالمين ومظلومين، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.
ذكر الدكتور رؤوف عباس في سيرته الذاتية “مشيناها خطى”:كان الدكتور عبد اللطيف أحمد علي، عميد كلية الآداب بجامعة القاهرة حين كنتُ معيدًا في قسم التاريخ الحديث، لا يطيق رؤيتي لأنه أراد تعيين طالبٍ آخر مكانِي مجاملة لرئيس جامعة الإسكندرية.
حاول مرة إهانتي أمام الجميع بعد إحدى المحاضرات بالجمعية المصرية للدراسات التاريخية، فناداني قائلًا: “أنت يا… أنت”، فتجاهلتُه. ثم أعاد النداء: “أنت يا عباس! إزاي تكون شغال عندي وما بتيجيش الكلية؟”
فأجبته بصوت جهوري: “أنا مش شغال عند حضرتك، أنا معيد بجامعة القاهرة، ومسؤولية متابعتي تقع على أستاذ التخصص”.
فرد قائلًا: “لكن عليك واجبات في القسم يجب تنفيذها، تعالَ قابلني في المكتب الساعة عشرة”.
فيا أيها المسؤول، كبيرًا كنت أم صغيرًا، إن جُرتَ على أحد، فتطهّر بطلب العفو منه، ولا تأخذك العزة بالإثم. المناصب زائلة، وهي وهم كبير. ولَأن تُخطئ في الإدارة أهون من أن تَظلِم. وحذار من دعوات المظلومين، فهي سهام الليل لا تخطئ.
لا تَظلِمَنَّ إِذا ما كُنتَ مُقتَدِرًا
فَالظُلمُ مَرتَعُهُ يُفضي إِلى النَدَمِ
تَنامُ عَينُكَ وَالمَظلومُ مُنتَبِهٌ
يَدعو عَلَيكَ وَعَينُ اللَهِ لَم تَنَمِ