
همسة في زمن الضجيج.. بقلم / عادل رستم
بين أضواء المدينة وخيوط المساء، نظر صديقي (سعيد) نظرةً تحمل أكثر من مجرد نصيحة. انحنى قليلًا، وكلماته كانت كقطرات الندى على أوراق يابسة
احرص أن ترسم دائرة روحك مثل أولئك الذين يحملون مصابيح العقل في هذا الزمن المشوّش، حيث يعلو صراخ الجهل أحيانًا كالضباب الكثيف، تبقى أصواتهم نقاط ضوءٍ تشق الظلام. كلماتهم جسورٌ نعبر بها فوق الفوضى.
ثم تهادت ابتسامة دافئة على شفتيه، لكن عينيه حملتا ظلاً من لوعة
كتاباتك – يا صديقي – كنزٌ حيّ. فيها نبضٌ يلامس الأعماق، وسيلٌ لا ينضب من الحياة… لكن قلبي يقفز خوفًا عندما أتخيل يومًا تُغلق فيه دفترك. كيف سنعبر تلك الليالي؟ وكيف سنلمس دفئ الحروف حين تختفي بصمتك؟
توقفتُ.
لم تكن مجرد كلمات عابرة. كانت حزمة مشاعر متشابكة ثقةً تُشبه الحضن، وخوفاً رقيقاً كندى الصباح. تشجيعٌ يرفع الأجنحة، وقلقٌ نبيلٌ يُثقل الكتفين.
لم أتوقف عند المعنى الظاهر، بل عند هزةٍ خفيةفي أعماقي
وماذا بعد..؟
الحياة لا تقدم حلولاً جاهزة لهذه الهواجس. لكن صديقي ألقى حجرًا في ماء راكد
نصحني وقال
اكتب، ولو لصندوقك السري. احتفظ بكنوزك في الخزائن المغلقة. فإذا ما توقفتْ يديك يومًا – لا سمح الله – ستكون تلك الكلمات رصيدًا للقلوب المتعطشة، وطوق نجاةٍ لنا من غيابك.
الآن.. وأنا أتأمل خريطة الغد، تظلُّ الأسئلة تتراقص أمامي كأضواء بعيدة
هل تكفي الكلمات المكنونة؟
وأي طريقٍ سأسلك في متاهة الأيام؟
القلب ما زال يردد بتردد
وماذا بعد…
هل أنا من يمسك القلم أم أنني غيمةٌ تُمطره حروفًا؟ أسلم روحي للكتابة كأمواجٍ عابرةٍ تُنحتُ شواطئَ قلبي حينًا تتراجع كالأحلام المنسية، وحينها تندفع كطوفانٍ يقلبُ مركبي. هي ليست حرفةً أتقنها فقط بل لغةٌ تكشفني، ومطرٌ ينبت في صحراء روحي كلما جفّت. في سكون الليل، حين يُرخي الظلام سدوله، تصير الكلماتُ فضفضة الروح الأخيرة شظايا من وجعٍ لم يُنطق، وصرخاتٍ تبحث عن صدى في جدران الصمت. أسمعها تتكسر كأصدافٍ على شاطئ الورق، فتزدهر منها أصدارتي التي لا أعرفها. وأنا بين هذا وذاك موجٌ لا يستقر. إن تدفقتُ، تخطفني الكتابةُ كبحرٍ عاتٍ . وإن سكنتُ، تصير روحي غيمةً ثقيلةً بانتظار برق يمزقها.
وهنا يكمن الخوف الأكبر أن يأتي يومٌ تجف فيه ينابيع الحرف يومٌ أُدفن فيه بين السطور التي لم أكتبها، فأصير جسدًا بلا نبض. لأن الكتابةليست مهنةً، بل هي الحبل السري
الذي يصل عالمي الخفي بالضوء.
وإن انقطع.. فسأتحول إلى ظلٍّ
يطويه النسيان في مقبرة
الأحياء.