
زكريا الرطيل… حين يكون الشعر موقفًا لا إصدارًا
بقلم عبدالله السلايمة
في كل مرة نعيد فيها طرح سؤال القيمة الشعرية، يتصدّر المشهد اسم شاعر مثل زكريا الرُطيل، الذي رحل عن عالمنا في يوليو ٢٠٢٥، تاركًا خلفه حزنًا عميقًا في نفوس من عرفوه.
لم يسعَ زكريا الرطيل خلف الأضواء، لكنه ظلّ صوتًا فاعلًا في المشهد الأدبي السيناوي؛ شاعرًا يكتب بصدق، ويؤمن بأن الشعر الحق لا يُقاس بما نُشر، بل بما خلّف من أثر في النفوس.
ولعل هذا الوفاء للشعر هو ما منح زكريا الرطيل فرادته؛ فلم يكن شاعر مهرجانات، ولا نجم صفحات ثقافية إلكترونية، بل كان شاعر اللحظة الداخلية، واللغة التي تختمر طويلًا قبل أن تُقال.
كان يرى في النشر العشوائي نوعًا من التفريط بجوهر النص، لذا آثر الصمت أحيانًا، والانكفاء أحيانًا أخرى. لكنه لم يتخلَّ يومًا عن إيمانه بالشعر، لا كحرفة، بل كدواء يُخفّف الألم.
لم تخلُ تجربته، التي امتدت لعقود، من التنوّع؛ فقد كتب القصيدة العمودية بجمال يحفظ للموسيقى وزنها، وللمعنى بهاءه، دون أن يقع في فخّ التقليد أو الزخرفة الفارغة.
وكان حاضرًا في الهمّ الوطني بقوة؛ بل إن بعض قصائده تُقرأ بوصفها شهادة وجدانية على ما عايشه الإنسان السيناوي من ألم وحنين وأمل.
ولأنّ الشعر عنده موقف من الحياة لا استعراض لغوي، فقد ترك نصوصًا بالعامية لم يُفصح عنها، وكتب بالإنجليزية نصوصًا ظلت حبيسة أوراقه. لم يكن ذلك نقصًا في الجرأة، بل شكلًا من أشكال الحياء الإبداعي.
كان شاعرًا يعرف أن القصيدة تُولد مرةً واحدة، وأنها إذا خرجت قبل نضجها… تموت.
لقد خسرنا برحيله وجهًا من وجوه الشعر النقي في سيناء؛ شاعرًا لم يطلب الاعتراف، لكنه استحقه، ولم يسعَ يومًا إلى موقع رسمي، لكنه ظلّ مرجعية أخلاقية وإبداعية.
وها نحن، بعد رحيله، نكتشف كم كنّا بحاجة إلى إعادة قراءة صوته، لا من زاوية عدد الإصدارات، بل من عمق التجربة ونُبل الموقف.
وداعًا زكريا الرطيل… أيها الشاعر الذي ظلّ أكبر من ديوانه الوحيد، وأقرب إلى الشعر من كل الضجيج.