
طاقة نور (4) لماذا نكتب؟ بقلم أ.د. زكريا محمد هيبة
في عام 2010، أنهيت مسودة كتاب بعنوان “الحجاج بن يوسف الثقفي: المفتري المفترى عليه” وضعتها في مظروف وركنتها جانبًا، حتى كادت أن تُنسى. ثم، قبل عامين أو ثلاثة، نشطت همّتي فجأة، وقررت أن أكتبها على الحاسوب. بدأت أبحث عنها في كل زاوية قد تُخبّئها، لكنها بدت وكأنها لوح ثلج ذاب – مع الاعتذار لمثلنا الشعبي “فص ملح وذاب”.
لكن، وبتلك المصادفات التي لا نملك تفسيرها، وجدتها قبل أشهر. لا أدري من قال: “رب صدفة خير من ألف ميعاد”، لكنني أمسكت بالمسودة قبل أن تذوب أو تضيع من جديد. قررت أن أُخصص لها وقتًا ثابتًا، وبدأت رحلة إعادة الكتابة.
مع كل جلسة، كنت أعود إلى بعض الفصول، أحذف هنا، أضيف هناك، أُقدّم فقرة وأؤخر أخرى. وبعدما أنهيت النص، وجدت نفسي أراجع وأعدّل يومًا بعد يوم؛ لا بد من تغيير ما، دائمًا. وهكذا، ظلّ قرار إرساله إلى دار النشر مؤجَّلًا.
وخلال هذه العملية غير المعتادة -فأنا ممن يكتبون بسرعة ولا يرجعون كثيرًا لما كتبوا – تذكرت قول القاضي الفاضل: “إني رأيت أنه لا يكتب أحد كتابًا في يومه، إلا قال في غده: لو غُيّر هذا لكان أحسن، ولو زِيد هذا لكان يُستحسن، ولو قُدّم هذا لكان أفضل، ولو تُرِك هذا لكان أجمل. وهذا أعظم العِبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر”.
بعد استخارة، أرسلت الكتاب إلى دار نشر في الخليج سبق أن نشرتُ فيها عملًا سابقًا. وبعد حوالي شهر، وبينما كنت أكتب شيئًا جديدًا، وردتني رسالة على “الواتساب” تعتذر عن نشر الكتاب. لم تكن المرة الأولى، ولا الثانية، بل توالت الرفضات من قبل.
لكن ما أدهشني فعلًا، أنني تجاهلت الرسالة، وعدت بكل حماسي إلى معالجة النص الذي كنت أكتبه. كنت أظن أن رفض نشر كتاب قد يصيبني بالفتور، على الأقل مؤقتًا. فما جدوى الكتابة إذا كانت تقابل بالرفض؟!
ثم تساءلت مع نفسي: هل الكتابة بالنسبة للكاتب إلحاح لا يمكن مقاومته؟ هل هي شقاء أم شغف؟ وإن كانت شقاءً، فلماذا يتمسك بها الكاتب؟!
أتذكر الأديب الكبير يحيى حقي، وقد سأله أحد المحاورين في شيخوخته: “لماذا اعتزلتَ الكتابة؟”
فأجاب:
“أنا لستُ موهوبًا يجري القلم على يدي، وإنما يأخذ مني النص وقتًا وجهدًا كبيرًا، فأقوم بعد كل كتابة كالخرقة المهلهلة، لا أقوى على الحركة!”
وسُئل أوسكار وايلد، الكاتب المسرحي الشهير، عن الفرق بين الكاتب الهاوي والمحترف، فقال:
“الهاوي يكتب عندما يشعر بالرغبة، أما المحترف فيكتب تحت أي ظرف، ومهما كان الحال”.
نعم، الكتابة تتضمن ألمًا وقلقًا وشرودًا، لكنها تمنح في المقابل لحظة نشوة، ومعنى عميقًا، ومتعة لا تُضاهى.
ويقول المثل اليوناني “:إذا أردت أن تصبح كاتبًا، اكتب.”