
من مجالس الحكماء إلى قاعة البرلمان: مسيرة الحياة النيابية في مصر
بقلم / سهام عزالدين جبريل
تعيش الدولة المصرية اليوم حالة من الحراك السياسى
المتمثلة فى الانتخابات البرلمانية لأحد غرفتى البرلمان وهىى انتخابات مجلس الشيوخ
الذى يمثل الغرفة الثانية من البرلمان ويطلق علية مجلس الحكماء حيث تعتبر مصر اقدم الدول التى مارست الحياة النيابية منذ أقدم عصور التاريخ
فعلى مدار آلاف السنين، لم تكن مصر مجرد حضارة عريقة أقيمت على ضفاف النيل، بل كانت أيضًا معملًا مبكرًا لتجربة الحكم والإدارة والمشورة. فرغم أن البرلمان، كمؤسسة تشريعية منتخبة، هو نتاج الحداثة السياسية، فإن جذوره الفكرية يمكن تلمّسها في عمق التاريخ المصري، منذ الدولة الفرعونية حتى قيام الدولة الحديثة في القرن التاسع عشر، وصولًا إلى البرلمان بتكوينه الدستوري المعاصر.
والتى يمكن تقسيمها على عدة مراحل عاشتها الدولة المصرية منذ قيام اقدم حضارة على ضفاف النيل
اولا -الحضارة الفرعونية: بدايات التشاور والنظام المؤسسي:
لم تعرف الحضارة المصرية القديمة البرلمان بمعناه الحديث، لكنها أرست أسسًا مبكرة للحكم القائم على المشورة والمؤسسات.
فقد كان الفرعون يعقد مجلسًا من الكهنة والوزراء وكبار الحكماء لإدارة شؤون البلاد، بينما مثّل نظام “ماعت” مفهوم العدالة والشرعية، وتمت صياغة القوانين والأعراف بناءً على مبادئه.
وكان لكل إقليم (نوم) قادة محليون ومسؤولون يديرون شؤون الحكم المحلي، ويعملون ضمن منظومة مركزية صارمة، بما يشبه البدايات الأولى لفكرة التمثيل اللامركزي وإدارة الدولة عبر نُخب مدنية وإدارية.
ثانيا – محمد علي ونواة التمثيل المؤسسي:
في مطلع القرن التاسع عشر، ومع صعود محمد علي باشا إلى الحكم، بدأت تتبلور ملامح الدولة الحديثة.
ففي عام 1824، أنشأ محمد علي أول مجلس للمشورة يضم علماء وأعيانًا من مختلف الطبقات، للتشاور في قضايا الزراعة والضرائب والتنظيم الإداري.
ورغم أن المجلس لم يكن منتخبًا، ولم يمتلك سلطات حقيقية، إلا أنه كان نواة لفكرة أن للشعب حقًا في إبداء الرأي، حتى لو عبر نخبه.
ثالثا -الانطلاقة الرسمية للحياة النيابية فى مصر :
مجلس شورى النواب 1866
تُعد نشأة مجلس شورى النواب في عهد الخديوي إسماعيل عام 1866 البداية الفعلية للحياة النيابية في مصر.
وقد ضم المجلس 75 عضوًا من ممثلي الأقاليم، واختص بمناقشة القوانين ومراقبة تنفيذها، رغم أن سلطاته بقيت استشارية.
كانت تلك الخطوة انعكاسًا لتأثر مصر آنذاك بالحراك الدستوري في أوروبا، ومحاولة لمحاكاة أنظمة الحكم البرلماني، خاصة في فرنسا.
رابعا – الاستعمار والمجالس المقيدة (1881–1913):
مع بدايات الاحتلال البريطاني لمصر، شهدت الحياة النيابية تقلبات عدة.
فقد أنشئت الجمعية العمومية ومجلس شورى القوانين، ثم الجمعية التشريعية عام 1913، والتي ضمت ممثلين معينين وآخرين منتخبين، لكنها كانت محدودة السلطات، ومحكومة بإرادة الاحتلال.
رغم ذلك، ظل البرلمان ساحةً للتعبير الوطني، حيث برزت أصوات تطالب بالاستقلال ورفض الوصاية، ما جعله بمثابة برلمان مقاومة سياسية، أكثر منه مؤسسة تنفيذية فاعلة.
خامسا- البرلمان والدستور في ظل الملكية (1923–1952):
جاءت ثورة 1919 لتدفع نحو التمثيل الحقيقي، فصدر دستور 1923، وأُنشئ مجلسا النواب والشيوخ، في تجربة تُعد من أنضج المراحل البرلمانية في مصر.
شهد البرلمان آنذاك مناقشات حرة، ومنافسة قوية بين أحزاب كبرى مثل الوفد، والسعديين، والأحرار الدستوريين، مع حضور واضح للمعارضة والتوازن بين السلطات.
سادسا -ما بعد الثورة: بين الحزب الواحد وتعددية مقيدة:
١ -بعد ثورة 1952، تم حل البرلمان، وأنشئ مجلس الأمة ٢-عام 1957، تلاه مجلس الشعب
٣-في عهد السادات بموجب دستور 1971، ثم مجلس الشورى عام 1980.
لكن ظلت هذه المجالس تعمل في إطار محدود، في ظل نظام سياسي تسيطر عليه السلطة التنفيذية، والحزب الواحد، قبل أن تشهد انفتاحًا جزئيًا في التسعينات.
سابعا – تحولات ما بعد يناير ويونيو: عودة المجلسين
أفرزت ثورة يناير 2011 برلمانًا جديدًا، لكنه لم يستمر، تلاه مجلس 2015 الذي جاء في ظل دستور 2014، وأعاد صياغة الحياة النيابية بتوازن جديد.
وقد أُعيد إحياء مجلس الشيوخ في 2020، كمجلس استشاري يثري التشريعات والرؤى الاستراتيجية، إلى جانب مجلس النواب كمؤسسة تشريعية ورقابية فاعلة.
المرأة والبرلمان: رحلة صعود متأخرة ولكن قوية
رغم تأخر دخول المرأة إلى الحياة النيابية حتى منتصف القرن العشرين، فإنها اليوم تحتل مساحة مؤثرة في المشهد البرلماني.
فبفضل الكوتة الدستورية وجهود التمكين السياسي، أصبحت المرأة تمثل ما يقارب 28% من مقاعد مجلس النواب، وتشارك بفعالية في لجان التشريع والخارجية والحقوق الاجتماعية، فضلاً عن تواجدها في مجلس الشيوخ بنسبة ملحوظة.
خاتمة: البرلمان المصري… مرآة الأمة
الحياة البرلمانية في مصر ليست مجرد مؤسسة تقليدية، بل مرآة تعكس التطورات السياسية والاجتماعية في البلاد.
فمن مجالس الحكماء إلى القبة البرلمانية الحديثة، ومن المشورة الصامتة إلى الصوت الممثل للأمة، تظل التجربة النيابية في مصر شاهدًا حيًا على سعي الدولة الدائم نحو التمثيل، والعدالة، وتكريس الإرادة الشعبية في صنع القرار.
—
خالص تحياتى
د/ سهام عزالدين جبريل
دكتوراه في الإعلام السياسي والعلاقات الدولية
– زمالة الأكاديمية الوطنية للدراسات الاستراتيجية العليا – عضو البرلمان المصري سابقًا