مقالات

طاقة نور.. (المنسلخون من جلودهم) بقلم أ.د. زكريا محمد هيبة

في زوايا الحياة، نرى أناسًا يحاولون مسح آثار الطريق الذي جاءوا منه. يغيّرون لهجتهم، يطمسون ملامح ماضيهم، ويتحدثون عن جذورهم كما لو كانت عبئًا ثقيلًا.

في الحديث الصحيح “أن ثلاثة نفر في بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى، بدا لله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك ؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، قد قذرني الناس، فمسحه، فذهب، وأعطي لونًا حسنًا، وجلدًا حسنًا، فقال: أي المال أحب إليك ؟ قال الإبل، فأعطي ناقة عشراء، فقال: يبارك لك فيها، وأتى الأقرع، فقال: أي شيء أحب إليك ؟ قال: شعر حسن، ويذهب هذا عني، قد قذرني الناس، فمسحه، فذهب، وأعطي شعرًا حسنًا، قال: فأي المال أحب إليك ؟ قال: البقر، فأعطاه بقرة حاملًا، وقال: يبارك لك فيها، وأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك ؟ قال: يرد الله إلي بصري، فأبصر به الناس، فمسحه، فرد الله بصره، قال: فأي المال أحب إليك ؟ قال: الغنم، فأعطاه شاة والدًا. فكان لهذا واد من إبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من غنم، ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين، تقطعت به الحبال في سفره، فلا بلاغ اليوم إلا بالله، ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن، والمال بعيرًا أتبلغ عليه في سفري، فقال له: إن الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرًا فأعطاك الله ؟ فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر، فقال: إن كنت كاذبًا فصيّرك الله إلى ما كنت، وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد عليه هذا . قال إن كنت كاذبًا فصيرك الله إلى ما كنت، وأتى الأعمى في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين وابن سبيل، وتقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلا بالله، ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال:

قد كنت أعمى، فرد الله بصري، وفقيرًا، فخذ ما شئت، فوالله لا أحمدك اليوم لشيء أخذته لله، فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك.

أكثر ما تأخذني الشفقة على هذه النوعية من البشر الذين يشبهون “الأبرص والأقرع”؛ حينما كانوا ضعفاء كانوا يتقربون إلى الله بالنوافل، ويلحّون في الدعاء أن يحقق لهم أمانيهم، سواء أكانت تلك الأماني؛ مال، أو عيال، أو منصب، أو جاه ….. وما أن يؤتوا ما أرادوا إلا وتراهم يتنكرون لماضيهم، ويبتعدون ما استطاعوا عمن يذكّرهم بهذا الماضي المقيت.

وقد أخبرنا الله بحال هؤلاء فقال جلّ شأنه: ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾.

إن النفوس الكبيرة لا تني تتذكر كل لحظات الشقاء والضعف والعوذ، وكيف أن الله تعالى نقلهم من الأسافل للأعالي.

عرفت أستاذًا جامعيًا من نوعية هذا الرجل “الأعمى” فقد كان فقيرًا مستضعفًا؛ فأنعم الله عليه وكبر، وصار أستاذًا جامعيًا، وبسط الله عليه في العلم والمال. سمعت غير مرة يتحدث بفخر عن هذا الماضي، وكيف كان يعمل أجيرًا ليساعد أسرته ونفسه، لم ألحظ في سرده أي بوادر صغار، بل كان يحكي باعتزاز العالم الخبير بقيمة أن تحيا عصاميًا.

وحدهم الضعفاء هم الذين يتخذون منطق “الأبرص والأقرع” فينقطعون عن أصل ماضيهم، وينقّبون عن أي ماضٍ بعيد يقربهم من طبقة غير طبقتهم، ولو من قبيل التشابه في الأسماء، ولو أرجع هذا التشابه للجد السابع عشر.
وفي الحديث الشريف ملمح آخر؛ أن اثنين من ثلاثة تنكروا لماضيهم، وواحد هو الذي أقرّ بفضل الله عليه؛ الأمر الذي يعني أن الذين تغيرهم تقلبات الزمان أكثر من هؤلاء الباقين على حالهم مهما تغيرت ظروفهم.
والحقيقة التي لا مراء فيها؛ أن الأصل هو الجذر الذي يمدك بالقوة. فالشجرة التي تُقطع عن جذورها تذبل مهما سُقيت. كذلك الإنسان، إذا جحد ماضيه، عاش غريبًا حتى بين أقرب الناس إليه.