
للفن دور آخر.. بقلم سوسن حجاب
إن تأثير السينما كبير جدًا على المجتمع، ويكاد يكون من المكونات الأساسية في تشكيل ثقافة ووجدان الشعوب. وكثيرًا ما أرى أفلام زمان التي تظهر الفقر والفقراء، فأجد ألفاظًا راقية ربما لا تعكس الواقع تمامًا، ولكنها تساهم بشكل كبير في تحسين هذا الواقع.
أقول هذا بعد مشاهدتي لبداية فيلم العزيمة، وهو من أهم مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية. أول مشهد كان عندما قامت بطلة الفيلم فاطمة رشدي بفتح باب الشرفة لنشر الأغطية والمفروشات، ثم تناولت إبريق ماء لتسقي المزروعات التي تزين الشرفة. ثم يظهر في الشرفة المقابلة بطل الفيلم حسين صدقي وهو يحدثها، وأمامه زهور ونباتات تزين شرفته هو الآخر، وهما من بيئة شعبية جدًا داخل أحداث الفيلم. كما أن الفيلم يتحدث عن قيم كثيرة، منها قيمة العمل والكد والسعي مهما كان العمل بسيطًا، وقيمة الرضا والقناعة، وقيمة الترابط بين البشر والتآزر والعمل معًا ضد القيم السلبية، وانتصار الخير والعدل في النهاية.
أعلم أن المجتمع تغيرت عاداته وقيمه، ولكن تظل هناك أشياء يجب التمسك بها ونبذ ما عداها. وأنا هنا أريد الحديث عن الزرع: زرع القيم والمبادئ، وهذا له ناسه كما نقول وقنواته المعروفة، وزرع النباتات، وهو مقصدي من هذا المقال. فلقد شاهدت بنفسي ما ذكره أحد الأفاضل الذين حصلوا على الدكتوراه من جامعة برلين في ألمانيا، أن كل الشرفات تقريبًا تزينها النباتات على اختلاف أنواعها، بل إنه زاد على ما رأيته بعيني بعد ذلك، عندما قال إنه إذا حدث خلاف بين امرأتين مثلًا تعاير إحداهما الأخرى بقول: يكفي أنك لا نباتات في شرفتك! معايرة راقية.
وأذكر أني قرأت منذ عدة سنوات أن إحدى الأمهات التي سافرت مع زوجها وأبنائها إلى هولندا، وعند التحاق ابنها الصغير بالمدرسة لاحظت وجود فتحة صغيرة أمام كل طفل في الطاولة التي يجلس خلفها التلاميذ. وبعدها عرفت أن هذه الفتحة مخصصة لإناء به زرع (أصيص) يضعه الطفل بيده، ويكون مسؤولًا عنه طوال العام رعايةً وعنايةً وريًا واهتمامًا، فيشب على حب الزرع أولًا كما يشب على المسؤولية حتى لو كانت عن زرعة أو نبتة بسيطة. ومعروف ما للزرع والزراعة من تأثير في تهذيب النفس والسلوك.
الشاعر علي بن الجهم أراد أن يمدح الخليفة المتوكل فقال:
أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في نطاح الخطوب!
فهم حرس الخليفة بضرب رأسه، فنهاهم عن ذلك قائلًا: إنما الشاعر ابن بيئته. بل إن الإنسان بشكل عام ابن بيئته. وأمر بتوفير منزل له يطل على حديقة وماء جارٍ، فمكث فيه حتى جاءه بعد شهور قائلًا، بادئًا قصيدته بـ:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وكأنه شخص آخر.
ونحن بلد زراعي في الأساس، لذا نشأت ونمت الحضارة عندنا ورقت المشاعر وازدهرت الفنون بأنواعها. وكما قلت قبل ذلك إن مصر تمثل بداية كل شيء طيب في هذا الكوكب منذ فجر التاريخ، وهذا بشهادة كل المنصفين من علماء التاريخ والآثار. بل إن كثيرًا من المصريين ربما لا يعرفون تاريخ بلادهم كما عرفه ويعرفه الآخرون.