
رحل حكيم سيناء.. غاب الجسد وبقي الأثر
توثيق / عادل رستم
حين ترحل القامات، يرحل معها جزء من التاريخ، وتبقى الأرض شاهدة على أثرهم. اليوم، تبكي سيناء رجلًا لم يكن عابرًا في حياتها، بل كان أحد أعمدتها الراسخة، رمزًا للحكمة والعدل، ووجهًا مضيئًا في سجل الشرفاء.
رحل الحاج يحيى محمد إبراهيم عطية الغول، الرجل الذي حمل هموم الناس، وجمع بين العلم والتراث، وبين الشريعة والعرف، وبين الحكمة والرحمة.

من هو يحيى الغول؟.. رجل جمع بين العلم والعرف
ولد في 26 نوفمبر 1955، في كنف قبيلة الفواخرية العريقة، ليحمل من إرثها قيم الشجاعة والكرم والوفاء. درس الحقوق وحصل على ليسانس القانون، وظل متمسكًا بجذوره، يمارس القضاء العرفي، ويعيد للمجتمع توازنه حين تختل الموازين.
وكان دائم الترديد أن الكلمة الطيبة هي مفتاح القلوب.

قاضي عرفي ومؤرخ للتاريخ
لم يكتفِ بفض النزاعات وإصلاح ذات البين، بل حمل القلم ليخلد ذاكرة سيناء في كتب تعد مراجع حتى اليوم، من أبرزها:
سيناء المقدسة (2008): توثيق للتراث والوقائع التاريخية.
العريش: الماضي والحاضر (2009): موسوعة عن عاصمة سيناء.
القضاء العرفي (2009): دراسة مرجعية في أنظمة العدالة التقليدية.
هذه المؤلفات لم تكن مجرد كتب، بل جسور بين الأجيال ورسالة بأن سيناء ليست مجرد أرض، بل حضارة ممتدة في التاريخ.

السياسي والمصلح الاجتماعي
لم يكن الغول مجرد قاضٍ، بل كان رجل مجتمع، يشغل مراكز تمثيلية في المجالس المحلية، ويساهم في صياغة الرؤى التنموية للمحافظة. وكان عضوًا فاعلًا في جمعية حفظ التراث السيناوي، داعيًا دائمًا للحفاظ على الهوية الأصيلة.
قال عنه أحد المقربين منه:
“رحل من كان البيت الكبير الذي نلجأ إليه عند الشدائد”.
شهادات من محبيه
د. شاكر رفعت بدوي قال:
“نال الحاج يحيى الغول منصبًا في قلوبنا بلا تكالب أو رشاوي كما يفعل البعض، بل كان أكبر من المناصب التي كان يستحقها بجدارة. سيبقى حيًا بسيرته الطيبة، بينما آخرون عاشوا للمنصب وسيموت ذكرهم كما ماتت ضمائرهم”.

الصحفي صلاح البلك نائب رئيس تحرير الوطن
“كان يتميز بأداء متزن وحكمة نادرة في كل المواقف، يقدم المصلحة العامة على أي طموح شخصي. حكيم سيناء ترك سجلًا إنسانيًا مليئًا بالحكايات التي تحتاج مجلدات، وكان ملاذًا وسندًا، يتمتع بقبول واسع في الشارع السيناوي وبثقة لا مثيل لها. خلق صالونًا سياسيًا وثقافيًا دائمًا في مجلسه، وكان آخر جيل الكبار من أصحاب الفكر والتأثير.”
ونعاه الدكتور صلاح سلام قائلا
فقدت سيناء احد اعمدتها “الحاج يحى الغول” الذي افنى عمره في خدمة كلمة الحق يفشيها بين الناس وكان لايخشى في ذلك لومة لائم فلم ينافق ولم يداهن وظل ثابتا على المبدأ قابضا على الجمر بعزيمة لاتلين فكان مثلا لمن يضحي من اجل المبادئ…عشت مرفوع الرأس ومت مبطونا شهيدا صابرا محتسبا ولانزكيك على الله فأنت في رحابه… وألسنة الناس اقلام الحق… كان موعدنا غدا وشاء القدر غير ذلك لتلقى ربك ويجف الدمع في وداعك…نعزي عائلة الفواخيرية وآل الغول وسيناء قاطبة ونعزي انفسنا فأنت ملك للجميع…استرد الله وديعته.فاذهب ياصديقي راضيا مرضيا بإذن الله الى جنة عرضها السموات والارض فقد اديت رسالتلك بما يرضي ربك ونحن شهودك …الوداع ياصديقي …الوداع يامن كنت لسان حق في زمن الباطل،

الإعلامي إيهاب المالح نعاه بكلمات مؤثرة …
“سيناء تفقد أغلى الرجال… رحل الرجل الذي كانت سيناء تعرفه جيدًا… تعرف صوته حين يناديها، وخطاه فوق رمالها، وقلبه الذي لم ينبض لغيرها. كان وجهه في الشدة صمودًا، وفي السلم حكمة، وفي الحرب وعدًا لا يُخلف. ترمّلت جبالك اليوم يا سيناء، وبكتك سهولك، وصمتت الريح إجلالًا لوداع رجلٍ لم يكن عابرًا في تاريخك، بل كان من أركانك التي لا تميل”.
وكتب عنه ممدوح الشريف
……..ورحل حكيم سيناء
ذهبتُ بخطواتٍ مثقلة لا تكاد تحملني، متوجهًا إلى عزاء آل الغول. كنتُ بيني وبين نفسي لا أصدق أنك رحلت عنا، وأننا لم نعد نستطيع مجالستك كما كنا ننتظر كل إجازة لنجلس معك وننهل من نصائحك وكلماتك الحكيمة.
دخلتُ الديوان فإذا بالشوارع مكتظة بالناس من كل صوب ودرب، الكل جاء يودعك ويدعو لك. استجاب الله الدعاء، وأثبتت الملائكة القلوب بالصبر، فمكانتك عند ربك عظيمة، لكننا نحن من افتقدنا النصيحة والأخ والصديق والأب والقائد: الشيخ يحيى الغول.
بدأتُ أُسَلِّم على إخوتك أولاً، ثم وقعت عيني على أبنائنا وأبنائك، فازداد ألمي. في كل ركن من الديوان كنتُ أرى حب الناس لك، حتى لم يعد هناك مكان فارغ من كثرة من حضر. كانوا جميعًا من أهلك ورفاقك وأصحابك، ومن كل من سعيت لهم بالخير يومًا.
رحلت جسدًا، لكنك تركت إرثًا من القيم والمواقف والوفاء. ولا نقول في وداعك إلا ما يرضي الله: أن يبدلك مكانًا أعظم بجوار الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.

ابن بطل.. وتاريخ من المجد
لم يكن يحيى الغول وليد الصدفة، بل ابن الشيخ محمد إبراهيم عطية الغول، أحد رموز المقاومة بعد نكسة 67، الذي خاطر بحياته لنقل الجنود المصريين إلى بر الأمان، والذي شهدت جنازته عام 1988 يومًا من الحداد الرسمي بمحافظة شمال سيناء.
“من عرف العرف لا يظلم، ومن تمسك بالشريعة لا يحيد عن الحق” – هذه العبارة التي كان يرددها، ورثها من والده، وجعلها مبدأً في حياته.
رحل الحكيم، لكن بقيت سيرته مدرسة في الوفاء والعطاء. لم يكن مجرد قاضٍ، بل كان صانع سلام، وباني جسور بين المتخاصمين، وحارسًا لهوية سيناء. سيظل اسمه محفورًا في ذاكرة الأرض، وفي قلوب من عرفوه.
قال أحد القضاة الشباب:
“كان حكمه مقبولًا لأنه كان عادلًا، وكلمته مسموعة لأنها صادقة.”
ونحن نودعه، لا نملك سوى الدعاء
رحمك الله يا صوت الحكمة، وعزاؤنا أن إرثك سيظل حيًا ما بقيت سيناء.